الصحافة الاستقصائية

"مصانع باطون" في غزة تنتج خرسانة "مغشوشة"

"مصانع باطون" في غزة تنتج خرسانة "مغشوشة"

تحقيق - محمد أبو شحمة

اضطر أحمد عمر لهدم أعمدة بيته بعد 30 يومًا من إنشائها، لاكتشافه غشاً في "الباطون" المستخدم ثبت عدم صلاحيته أو مطابقته للمواصفات الفلسطينية، حسب نتائج فحص مخبري لـ(10) عينات تم إخضاعها في أحد المختبرات لمدة 28 يوماً من الصب وقد رسبت جميعها في الفحص.
وتوصل عمر إلى اتفاق ودي مع مصنع "الباطون" الموجود في شمال قطاع غزة الذي ورّد له "الباطون" الجاهز، يقضي بهدم تلك الأعمدة وإعادة بنائها من جديد على نفقة المصنع دون الذهاب إلى المحاكم.

 

إبراهيم حمادة مواطن آخر من جنوب قطاع غزة اكتشف وجود غش في الخرسانة التي اسُتخدمت في سطح منزله البالغ مساحته 180 مترًا، وحسب نتائج فحص مخبريّ لمكعبات أُخذت وقت الصب لم تحقق فيها العينات الجهد المطلوب بعد 28 يوماً.

 

بعد عدة استشارات هندسية لمجموعة من المختصين أجمعوا على إجراء فحص الـ (core test ) ويتم من خلاله معرفة قوة تحمل الباطون الفعلية على أرض الواقع عبر جهاز يقوم بقص عينات أسطوانية الشكل من السقف ومن ثم كسرها والحصول على النتائج، تبين بعد هذا الفحص المكلف أن العينات رسبت مرة أخرى كما توقع حمادة.
وحصل حمادة على مبلغ مالي كتعويض من مصنع "الباطون" الذي تعاقد معه لتوريد الخرسانة لسقف بيته، دون هدم السطح أو إعادة تشييده من جديد، مقابل إيقاف القضية وعدم ذكر اسم المصنع عند أي جهة.

غش في الخرسانة

توصل معد التحقيق إلى أن عدداً من المصانع التي تورد "الباطون" لصالح بيوت المواطنين والمساجد في قطاع غزة، تغش في الخرسانة التي ترسلها من خلال تقليل كميات الإسمنت والحصمة لكل طلبية يتم توريدها، وذلك وفقًا لنتائج فحص مخبريّ لـ(10) عينات أخرى لمنازل مواطنين ومساجد، وتأكيدات موثقة من مسؤولين في وزارة الأشغال العامة والإسكان المسؤولة عن ترخيص المصانع والرقابة عليها، واتحاد الصناعات الإنشائية الجهة التي تمثل المصانع.
ويقتصر دور وزارة الأشغال العامة والإسكان في الرقابة فقط على إعداد الموازين الخاصة لكل مصنع مرة واحدة كل 6 أشهر، دون أخذ عينات بشكل دوري من كل مصنع، وهو ما يترك مجالاً واسعًا للمصانع في التلاعب والغش في الخرسانة، حسب أمين سر اتحاد الصناعات الإنشائية محمد العصار.
المفارقة أن وزارة الأشغال تؤكد أن غزة يوجد بها 30 مصنعًا "للباطون" 10 منها غير مرخصة، فيما يؤكد اتحاد الصناعات الإنشائية الجهة التي تمثل المصانع وجود 38 مصنعًا في غزة وجميعها مرخصة وحاصلة على شهادات اعتماد.

فحوصات مخبرية

أظهرت نتائج الفحص المخبريّ لعشر عينات خرسانية لأعمدة وأسطح منازل، من مناطق قطاع غزة، عدم تحقيقها للجهد المطلوب بعد 28 يومًا.
حصلت العينة الأولى لخرسانة من نوع B300أعمدة, على (172 Kg/cm2 ) حسب نتائج الفحص المخبريّ، فيما تنص المواصفة الفلسطينية على ضرورة حصولها في الفحص على (300 Kg/cm2 ).
وحصلت العينة الثانية لخرسانة من نوع B250 على (157 Kg/cm2 )، وذلك يعني رسوبها في الفحص، كذلك العينة الثالثة خرسانة من نوع B250 حصلت على 229Kg/cm2، فيما أظهرت نتائج العينة الرابعة حصول الخرسانة من نوع B300 على 269Kg/cm2.
وبشأن نتائج العينة الخامسة لخرسانة من نوع B300 حصلت على 219Kg/cm2، فيما نتائج العينة السادسة لخرسانة من نوع B300 حصلت على 232Kg/cm2، وجاءت نتائج العينة الخرسانية السابعة من نوع B300 , إذ حصلت على 185.17.
وأظهرت نتائج الفحص للعينة الخرسانية الثامنة من نوع B250 حصولها على Kg/cm2 204.44، ، فيما حصلت العينة التاسعة لخرسانة من نوع B300 على نتيجة 255.41 Kg/cm2، فيما جاءت نتائج العينة العاشرة لخرسانة من نوع B250 على 194 Kg/cm2.

انهيارات وتشققات

ويرجع رسوب عينات الفحص المخبريّ للخرسانة إلى عدة أسباب أبرزها تقليل المصانع لكميات الإسمنت الخاصة بكل خلطة، وعدم استخدام الحصمة التي تنص عليها المواصفة، وذلك يعتبر غشاً وفقاً لما قاله بروفيسور هندسة الإنشاءات في الجامعة الإسلامية د. سمير شحادة لـ"فلسطين".
و"الباطون" إذ لم يحقق النتائج المطلوبة في الفحص حسب المواصفة الفلسطينية في قوة الخرسانة فذلك قد يؤدي إلى تشققات وتصدعات وانهيارات في أي عنصر خرساني، حسب شحادة.
ويؤكد شحادة الذي أشرف على حل عدة إشكاليات لمواطنين وقعوا ضحية لغش بعض المصانع، أن العينات التي تحقق نسباً متدنية في الفحص تحتاج الأعمدة والأسقف المأخوذة منها إلى إزالة وإعادة تشييد من جديد على نفقة المصنع.
ويلفت إلى أن المواطن الذي يطلب باطون B300، من حقه أن تحصل عينات الفحص في المختبر على هذه النسبة، وإن حصلت غير ذلك فعلى صاحب المصنع القيام بتعويضه بأي شكل يتم التوافق عليه.

حق التعويض

المحامي عبد الكريم شبير شرح كيف تتعامل المحاكم الفلسطينية مع الغش في حالة تم إثباته من قبل مختصين أو وثائق، حيث تستند المحكمة إلى تقارير من قبل مختصين معتمدين يحددون قيمة الضرر الذي لحق بصاحب البيت أو المشروع نتيجة الغش، وعليه يتم اتخاذ القرار بتحديد قيمة التعويض.
ويوضح شبير لـ"فلسطين" أن التعويض يكون هنا حق الشخص الذي وقع عليه الغش، ويتم تقديم دراسة معتمدة للمحكمة المختصة بقيمة التعويض الذي لحق به.
ويؤكد أنه في حالة كان مبلغ التعويض أكثر من 10 آلاف دينار أردني يتم إسناد القضية لمحكمة البداية, لأنه يكون من اختصاصها، وإذا مبلغ التعويض أقل من ذلك يتم إسناد القضية لمحكمة الصلح المختصة.

تبادل للاتهامات

اتحاد الصناعات الإنشائية وهي الجهة التي تمثل مصانع الخرسانة في قطاع غزة ومن خلال أمين سر الاتحاد محمد العصار، أكد لـ"فلسطين" أنه بالفعل يوجد مصانع خرسانة تغش في الخرسانة من خلال عدة عوامل أبرزها تقليل كميات الإسمنت التي تحتاجها الخرسانة.
ويقول العصار إن: "المصنع لو قلل من كمية الاسمنت الخاصة بالخرسانة تصبح نسبة الخطورة عالية, ولا يوجد نسبة أمان وقد تحدث انهيارات"، مؤكدًا ورود عدة شكاوى على عدد من المصانع وصلت للاتحاد من خلال مواطنين تعرضوا للغش.
وأضاف أنه يتم التعامل مع تلك الشكاوى من خلال تشكيل لجنة هندسية من عدة جهات تقوم بأخذ قرارها، سواء بالطلب من المصنع تعويض المشتكي من خلال تقديم خرسانة جديدة له، أو دفع مبلغ مالي كتعويض مقابل تلك الخرسانة المغشوشة.
ويتهم العصار وزارة الأشغال العامة والإسكان بعدم القيام بدورها الرقابي على المصانع, الأمر الذي يترك للمصانع التلاعب في الخرسانة، بحيث لا تقوم طواقم الوزارة بأخذ العينات من سيارات الخرسانة بعد خروجها من المصانع، للتأكد من قوة الخرسانة وعدم وجود غش.
وتابع: "المصانع تعمل الآن هي وضميرها، أي أن أصحاب المصانع هم من يحددون نسب كل كمية من الإسمنت على كل خلطة".
ويشير إلى أنه في بداية عام 2007، وقبلها، كانت وزارة الأشغال تقف في سياراتها أمام المصانع، وبمجرد خروج سيارات الخرسانة تقوم بأخذ عينات ويتم فحصها، ولكن هذه الإجراءات لم تعد قائمة الآن.
ويبين العصار أن اتحاد الصناعات الإنشائية قام مؤخرًا بتوقيع اتفاقية تعاون مع شركة سند الخاصة بتوريد الإسمنت لقطاع غزة، وبموجبها ستقوم الشركة بتزويد مصانع غزة بـ21 مختبراً لفحص الخرسانة للتأكد من قوتها وعدم وجود غش فيها ولكن اجراءات الاحتلال تسببت في توقف المشروع حتى الآن.
ويشير إلى أن قطاع غزة يوجد فيه 38 مصنعًا مرخصاً وجميعهم أعضاء في اتحاد الصناعات الإنشائية، مبينًا أن الاتحاد ليس جهة تنفيذية ولكن لديه إجراءات عقابية بحق المصانع المخالفة مثل تعليق العضوية.

تلاعب مكشوف

صلاح الحتو مدير دائرة الجودة في وزارة الأشغال العامة والإسكان وهي الجهة التي تشرف على متابعة جودة انتاج مصانع الخرسانة المسلح (الباطون) ومنحها التراخيص في قطاع غزة، أكد أن مصانع الخرسانة في غزة تقوم بالفعل بإنتاج خرسانة غير مطابقة للمواصفة الفلسطينية ومغشوشة للمواطنين.
وقال الحتو إن "مصانع الباطون وفي ظل ارتفاع أسعار الإسمنت، تقوم بتخفيض كميات الإسمنت المطلوبة لقوة كل خرسانة، وزيادة كميات الرمل على الإسمنت، فعلى سبيل المثال الخرسانة من نوع B250، تحتاج إلى 6 أكياس إسمنت يقوم المصنع بوضع كميات أقل".
وكشف الحتو أن وزارته رصدت تلاعب بعض أصحاب مصانع الخرسانة في العينات الخاصة بمصانعهم، حيث يقوم المصنع بوضع كمية من الإسمنت والحصمة على المكعب دون علم صاحب العينات وذلك بهدف إنجاح العينات الخاص به.
وعن دور وزارته في متابعة ورقابة المصانع، أوضح الحتو أن طواقم الوزارة دورها فقط ضبط الموازين الخاصة بالخلطة بكل مصنع، ولا يوجد طواقم رقابية عند عملية انتاج الخرسانة، مبيناً أن وزارته تلقت العديد من شكاوى المواطنين الذين تعرضوا للغش من قبل مصانع الخرسانة، وقاموا بهدم أسقف بيوتهم وإعادة بنائها لعدم صلاحية الخرسانة التي تم استخدامها وعدم مطابقتها للمواصفة ورسوبها في الفحص المخبريّ.
ونوه الحتو إلى أن الوزارة قامت بإرسال إنذارات شفوية للمصانع تطالبهم بضرورة الالتزام بالمواصفة الفلسطينية الخاصة بتصنيع الخرسانة، وحل مشاكل المواطنين، مشيرًا إلى أن المصانع تعمل على حل تلك المشاكل خوفًا من السمعة السيئة لمصانعهم.
ويضيف: "العقوبة التي ينص عليها القانون الأساسي الفلسطيني الخاصة بالمصانع التي تغش بالخرسانة تنص على إغلاق المصنع لمدة 6 شهور متتالية، بعد إرسال إنذارات شفوية، لافتًا إلى أن وزارته قامت سابقًا بإغلاق مصانع بسبب الغش.
ويلفت إلى أن قطاع غزة يوجد به 30 مصنعًا للخرسانة، 20 منها فقط حاصلة على ترخيص وشهادة اعتماد من الوزارة، و10 غير مرخصة، مبينًا أن وزارته تجد صعوبة في إجبارهم على الترخيص، رغم إقرار القانون ضرورة الترخيص.
وفي ظل استمرار مصانع "الباطون" انتاج خرسانة غير مطابقة للمواصفات للمواطنين ومغشوشة، وعدم قيام الجهات المختصة بدورها الرقابي، يبقى خطر الانهيارات والتشققات يهدد مباني المواطنين الذين وقعوا ضحية لغش تلك المصانع، الأمر الذي يتطلب تحركاً سريعاً من الجهات المختصة في غزة قبل وقوع الكارثة.

go top