عامان مضيا على إقرار السلطة الفلسطينية لأجندة السياسات الوطنية وتركيزها على بند "المواطن أولاً"، ولا تزال السلطة الفلسطينية تتعامل مع مكافحة الفساد كملف منفصل وقائم بذاته، والسعي لإقصاء منظمات المجتمع المدني والمؤسسات ذات العلاقة والمواطنين عن الانخراط به والنضال من أجل التحرر منه. تستوقفني العديد من التساؤلات الواجب طرحها في هذا السياق، هل تنظر السلطة الفلسطينية للمواطنين على أنهم شركاء في حماية الوطن وصناعة القرار؟ أم أنهم مشاهدون لمسرحية الوطن الذي يحلمون به؟ ما هو الدور الذي تراه السلطة مناسبا للمواطنين للانخراط في مكافحة الفساد؟ وأين يرى المواطنون الفلسطينيون أنفسهم من عملية مساءلة المسؤولين ومكافحة الفساد؟ وهل الواقع المعاش في فلسطين والتشريعات المقرة من قبل السلطة الفلسطينية معنية بانخراط المواطنين في مكافحة الفساد؟ وأخيرا ما دور منظمات المجتمع المدني في حشد المواطنين للنضال في معركة الفساد؟
بحسب بحث أجرته منظمة الشفافية الدولية؛ فإن شخصاً من بين كل شخصين في العالم يظنون بأنهم قادرين على إحداث الفرق في مكافحة الفساد، ولكن يصبح الأشخاص متمكنين وقادرين من إحداث الفرق في هذا المجال عندما يتسلحون بالمعلومات اللازمة لهم، فالمعلومات هي الحافز العقلاني الأول بالنسبة للمواطنين، وتسلحهم بها يمكنهم من إجراء حسبتهم الخاصة بهم بناء على الثمن الذي سيدفعونه لنضالهم من أجل التحرر من الفساد، والفائدة العائدة عليهم من هذا الثمن، وهنا لا بد من ذكر المعضلة الأولى لانخراط المواطنين في حركة مكافحة الفساد في فلسطين، ألا وهي: صعوبة الوصول للمعلومات، والمرتبطة بالضرورة بتأخر إقرار قانونَيّ الحق في الوصول للمعلومات والأرشيف الوطني، بالرغم من انضمام فلسطين في العام ٢٠١٤ إلى العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسيّة، والذي تكفل المادة ١٩ منه حرية الرأي والتعبير، والحق في الحصول على المعلومات، فمتى سيقر هذا القانون؟
ولكن؛ هل قانون الحق في الوصول للمعلومات هو العقبة الوحيدة؟ لنفرض جدلا قيام رئيس السلطة الفلسطينية بإقرار القانون، فهل سينخرط المواطنون على الفور بحركة مكافحة الفساد، وسيسعون لإنهاء الفساد، وإحلال قيم الشفافية وأسس النزاهة ونظم المساءلة المجتمعية؟ بالطبع لو كنا في المدينة الفاضلة ستكون الإجابة نعم، ولكننا لسنا كذلك! في كثير من الأحيان، يرفض الناس الانخراط في حركة مكافحة الفساد، لأنهم يفرضون جدلا حاجتهم له في يوم من الأيام، أو لعدم إدراكهم الفائدة "المادية" والمجتمعية العائدة عليهم بشكل مباشر من مكافحة الفساد، وهنا لا بد من المطالبة بتطبيق القوانين والتشريعات المُسَنَّة لضمان إلزام الجهات الرسمية فيها وإشراك المواطنين بشكل أكبر في مكافحة الفساد.
لننطلق هنا في العمل على تعزيز النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد من فهم فكر المواطنين والمجتمع وكيفية تقبلهم للانخراط في هذه الحركة انطلاقا من نظرية التغيير، والتي تأتي هنا في ست مراحل: مرحلة ما قبل التأمل: وفيها ليست لدى الفرد قابلية أو نية لتغيير سلوكه، إما بسبب عدم وجود المعلومات الكافية، أو نقص الوعي، أو اعتقاده بأن تصرفه سليم ولا يهدده، وأعتقد أننا تخطينا هذه المرحلة. أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة التأمل: وفيها يبدي الفرد استعداده للتفكير بالتغيير، وهنا يدرك الفرد الضرر والمساوئ التي تنتج عن تصرفاته الحالية، والمنافع التي سيجنيها من تغيير هذه التصرفات، ولكنه غير مدرك للطريقة الأنسب للبدء بهذا التغيير، وأعتقد أننا الآن عالقين في هذه المرحلة. أما المرحلة الثالثة في هذا السياق، فهي مرحلة الاستعداد: حيث يصبح الأفراد على استعداد تام وجهوزية كاملة لتغيير سلوكهم في فترة قصيرة، قريبا لا تتجاوز بضعة أشهر، ويكون لديهم خطة كاملة وواضحة للبدء في هذا العمل، وهنا ننتقل لمرحلة العمل بثبات وثقة، والتي تؤدي فعلا لتغيير السلوك، وتليها مرحلة المحافظة على السلوك الجديد، وأخيرا مرحلة المثابرة والتي تتطلب حوالي ٥-٦ سنوات من المحافظة على العمل الذي بدأ به الفرد.
ينطلق المواطنون غالبا في تفكيرهم من نظرية الاختيار العقلاني (Rational Choice Theory) والتي تفترض أنهم يتخذون قراراتهم بعد حساب التكاليف والفوائد العائدة على هذه القرارات، وتحركهم في الغالب رغباتهم الفردية والشخصية، فهم غالبا يقيّمون الوضع انطلاقا من نظرتهم للخلاص الفردي للشخص ذاته، والفائدة التي سيجنيها بعيدا عن الخلاص الجمعي للمجتمع والفائدة التي ستعم عليه، ولهذا يتوجب على منظمات المجتمع المدني والحكومة -إن كانت فعلا معنية بإخراط المواطنين في مكافحة الفساد- أن يركزوا على الفائدة الحقيقية التي سيجنيها الأفراد من مكافحتهم للفساد في خطابهم. فتبيان أن المواطن الفلسطيني يمول أكثر من ٨٥٪ من الموازنة العامة للسلطة على شكل ضرائب مباشرة وغير مباشرة يسهل علينا إخراطه في المساءلة حول هذه طريقة التعامل مع هذه الأموال، وقد تشجعه على الانخراط في مكافحة الفساد من أجل حماية أمواله. إحساس المواطن الفلسطيني بأنه قادر على التأثير في هذا السياق يمكنه من استمرار التزامه بالمشاركة في حركة مكافحة الفساد، وخير مثال على اهتمام المواطنين بالعائد المادي عليهم هو حراك الضمان الاجتماعي، وإصرار المواطنين على عدم مروره بصورته الحالية والتي تُغيِّب مصير المبالغ التي سيسددونها للصندوق، وغياب الرؤية لتشغيله، وغياب بعض اللوائح الداخلية للقانون، وغياب الثقة بالحكومة التي كان يجدر بها أن تحيد نفسها عن معركة الضمان الاجتماعي لتوفير الفرصة حول احتمالية استقلال مؤسسة الضمان، والتخوفات من إمكانية تكرار مصير صندوق التقاعد الذي يوشك على الإفلاس بسبب الديون المتراكمة له على الحكومة والتي تجاوزت الملياري دولار. وهنا دعوة لمؤسسات المجتمع المدني المعنية بتعزيز دور المواطنين في الرقابة على المال والشأن العام في كل القطاعات لإبراز تأثير الفساد في القطاع الذي يعملون به على الفئات التي يعملون معها، بتزويدهم بحقائق وأرقام والتأكد من وصولها لهم وفهمه لها.
لعل تحفيز المواطنين لا يقتصر دائما على الفائدة المادية التي سيجنيها المواطن، خصوصا إن انطلقنا من التواصل مع المواطنين وإفادتهم بمدى الخسارة التي ستزيد في كل يوم يقصر فيه المواطنون عن انخراطهم في حركة تعزيز النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد ومساءلتهم حول قضايا المال والشأن العام التي تخصهم، فليس بالضرورة أن يجني المواطن عائد مادي متحقق من مكافحة الفساد، ولكنه بالتأكيد سيوقف خسارته للمبلغ الذي يساهم فيه من ضرائبه للموازنة العامة، كما سيؤثر على جودة الخدمات العامة المتوقع وصولها إليه.
ومن المهم إدراك المواطنين لقوّتهم الكامنة وقدرتهم الحقيقة على تشكيل وصناعة الرأي العام، عوضا عن خضوعهم لما يتم إقراره وفرضه عليهم دون إشراكهم في تحديد أولوياتهم التي يحتاجونها، وهنا يتوجب على الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني الاستعداد للانفتاح، وتقبل مشاركة المواطنين في تحديد الأولويات، فبرامج الحكومة يمولها المواطنون من جيوبهم، كما أن برامج المؤسسات الأهلية يتم تمويلها من أموال عامة تم تحصيلها باسم الشعب.
يكون "المواطن أولا" بشكل حقيقي وفعلي إن ساهم هذا المواطن في رسم وتشكيل خططه القطاعية وعبر القطاعية التي تقر ويتم العمل بها بالإضافة الى حقه في الرقابة الحقيقية على التطبيق لهذه الخطط ومن ثم المساءلة والمحاسبة على التنفيذ، وهنا لا يسعني إلا أن أذكر المواطنين بقوتهم في انتزاع هذا الحق، وقدرتهم الحقيقية على المساءلة والمحاسبة -إن لزمت- فبغير ذلك سنستمر في الذهاب إلى الحتف المجهول، كما لن يتمكن المواطنين من المباشرة بهذا الحق إن لم تباشر مؤسسات المجتمع المدني بأخذ دورها الرقابي على إدارة المال والشأن العام وكل في قطاعه وتخصصه. ومن المهم هنا انطلاق هذه المؤسسات من أولويات المواطنين، وحرصهم الدائم على السعي للالتفاف الجماهيري والشعبي حولها، ففقد المواطنين ثقتهم بالحكومة لا يمكن استعادته بشكل مباشر، وإنما عند تكامل العمل الأهلي، والعمل الحكومي مع متطلبات واحتياجات المواطنين، أما بالنسبة للحكومة، فإنها الخاسر الأكبر من عدم التفاف المواطنين حولها خصوصا في ظل ما تعانيه اليوم من هجمه خارجية، وهنا لا بد للحكومة من إبداء استعدادها لتقبل الانفتاح، والنقد لتطوير وترميم الوضع الداخلي، وبذل الجهود الجدية والعزم على محاربة الفساد لأنه اأرب الطرق لبناء الثقة، والكف عن التعامل مع الفساد على أنه ملف يستخدم لأغراض السيطرة على بعض مراكز القوى أو الاستخدام السياسي لبعض الملفات التي تخرج من الدرج عن الحاجة لها فقط! إذا أردتم ترميم الثقة، عليكم أن تضحوا بالفساد والفاسدين، وأن يزج بهم في السجون، وعندها فقط يمكن الحديث عن الثقة الضائعة.
* منى شتيه، مختصة تواصل وإعلام إجتماعي