الصحافة الاستقصائية

"فوضى الطمم" مستمرة في البيرِة ..فهل البلدية مُقصّرة؟!

"فوضى الطمم" مستمرة في البيرِة ..فهل البلدية مُقصّرة؟!

إذا ما قادتك خطاك إلى جولة في مدينة البيرة، فإنك ستلاحظ تحول بعض الطرقات الى مكبات عشوائية لمخلفات البناء والانشاءات. الأمر الذي يدعو للتساؤل عن استمرار هذه الظاهرة التي يترتب عليها آثار بيئية وتشويه للمنظر العام. فمن الذي يقوم بذلك؟ وأين دور الجهات الرقابية؟

على سبيل المثال لا الحصر، تحول الشارع الواصل بين مدخل مدينة البيرة الشمالي والشارع الرئيس المقابل المؤدي للمدينة من جهة بلدة سردا، الى مكب للنفايات الناتجة عن مخلفات البناء. آلاف الأطنان من الطمم،اطارات مستعملة وكميات من الباطون تخلصت منها مضخات أو شاحنات في المكان، لدرجة أن النفايات لم تعد موجودة فقط على جانبي الشارع الذي لا يتعدى طوله 2 كم، بل وصل الحد الى وضعها في الشارع نفسه. لا ينطبق هذا الحال على هذا الشارع في مدينة البيرة فحسب، بل يمكن القول ان المشكلة موجودة في مناطق مختلفة من البلاد بنسب متفاوتة من مكان لآخر، وخصوصا على أطراف المدن والتجمعات السكانية، نظرا لعدم وجود مكبات خاصة بمخلفات الانشاءات، حيث يتم التخلص منها بالطرق الاسهل والأقل تكلفة، بإلقائها على جوانب الطرقات. أو في أحسن الاحوال في اراضٍ خاصة.

مع حلول ساعات المساء، تنشط الحركة في الشارع المذكور، شاحنات محملة بالنفايات، خلاطات ومضخات باطون، وحتى صهاريج لنضح المجاري، تقف خلسة على جانب الشارع، وتتخلص من نفاياتها بسرعة، فالعملية لا تحتاج لأكثر من خمس دقائق، لكن إزالتها بحاجة لوقت وأموال وقرارات من الجهات المختصة، لإعادة المكان الى هيئته السابقة. في المقابل، يوفر السائق على نفسه الوقت والمال من خلال توفير الوقود، وإعفاء نفسه من دفع مبلغ 30 شيكلا مقابل حمولة كل سيارة إذا تخلص منها على طرف الشارع بدلا من نقلها للكسارات أو الأماكن المخصصة لذلك.

في غالب المرات ينجح السائقون في التخلص من حمولات شاحناتهم، فالجهة الرقابية المسؤولة في بلدية البيرة تعتمد بالأساس على الشكاوى والتبليغات من المواطنين الذين يرصدون هذه الظواهر ويبادرون بالاتصال من تلقاء أنفسهم.

اتهامات بـــ"التقصير" والبلدية ترد: نحاول الإمساك بطرف الخيط

تشترط بلدية البيرة على أي مقاول قبل بدء تنفيذ مشاريع البناء أن يودع في البلدية مبلغا يصل 10 آلاف دينار أردني، كتأمين وضمان لعدم التخلص من مخلفات البناء والحفر بشكل عشوائي، وفي حالة مخالفة المقاول يتم حجز المبلغ لحين إزالة التعديات التي قام بها. وفقاً للمهندسة ديما جودة مساعد مدير بلدية البيرة للشؤون الفنية الهندسية والتخطيط والصحة. لكنّ مصدرا من داخل البلدية، طلب عدم الافصاح عن هويته، كشف عن عدم التزام كل المقاولين بإيداع مبلغ التأمينات، مشيرا الى أن بعض هؤلاء المقاولين تربطه علاقات مع مسؤولين في البلدية من شأنها غض الطرف عن موضوع التأمين وكذلك عن رقابة الشاحنات التابعة له. وبين المصدر أن مسؤولا في البلدية تربطه علاقة شراكة بإحدى الشركات التي تقوم شاحناتها بإلقاء الطمم على جوانب الشوارع.

البلدية على لسان مديرها زياد الطويل، أقرّت بوجود مخالفات داخل البلدية من هذا القبيل، لكنها لم تستطع اثباته بعد. وأضاف: "نحن نسمع الكثير من الاتهامات حول هذه المخالفات، ونحاول البحث عن اثباتات لوضع حد لها، وهذه مهمتنا".

ولدى مواجهته بإسم أحد المقاولين الذي تربطه علاقة شراكة بموظف داخل البلدية، نفى الطويل أن تكون هناك أي علاقة رسمية مع هذا المقاول، لكنه بين أن بلديته فحصت مرات عدة ما اذا كانت هناك علاقة بين هذه الشركة والموظف، عبر فحص ملكية الشركة والشاحنات ان كانت مشتركة. وأضاف: " لم نتمكن من ايجاد أي علاقة رسمية من خلال الوثائق، ونحاول الإمساك بطرف خيط، هناك شيءٌ مخفي، ولم نستطع التأكد منه بعد".

وأشار الطويل الى الاجراءات المتبعة من قبل بلديته لضبط مشكلة مخلفات البناء تتمثل بتحويل المخالفين الى الشرطة بمعدل 10 حالات شهريا. وبخصوص دفع التأمينات للبلدية بين الطويل أن الأمر مرتبط بعدد رخص البناء التي تصدرها، حيث وصل العدد في شهر أيلول/ سبتمبر 2016 الى 20 رخصة التزم أصحابها جميعا بدفع التأمينات النقدية. وأوضح الطويل أن "المخالفين الذين يتم ضبطهم عادة ما يأتون من خارج مدينة البيرة، ويتخلصون من نفاياتهم في شوارع بالمدينة، ونحن لا نستطيع فرض التأمينات عليهم كونهم ليسوا من المدينة، وفي هذه الحالة يتم ارسال كتاب للشرطة لاتخاذ المقتضى القانوني".

مجلس الخدمات: حلٌ قريب

مشروع جديد لإقامة كسّارة تستوعب مخلفات البناء في رام الله والبيرة، سيرى النور خلال أشهر، وسيكون حلا مناسبالظاهرة التخلص العشوائي على جوانب الطرق. هذا ما كشف عنه المدير التنفيذي لمجلس الخدمات المشترك لإدارة النفايات الصلبة في المحافظة م. حسين أبو عون. وأضاف: "اتفقنا مع أحد رجال الأعمال على إنشاء هذه الكسارة، في منطقة مصنفة (ج)، وقد بدأنا فعلا بإجراءات الحصول على موافقة الجانب الاسرائيلي، والموضوع من هذه الناحية أصبح جاهزا، ومن المتوقع المباشرة خلال شهور في إنشاء الكسارة بحيث تستوعب كل نفايات البناء التي ستفرز حسب نوعها لتدويرها وإعادة استخدامها".

في المقابل، أكد أبو عون على أنه سيتم إصدار تعليمات لكل الهيئات المحلية في المحافظة لتوجيه مخلفات البناء الى الكسّارة، وإلزام المقاولين بالتوقيع على تعهد بذلك، مشيرا الى أنه "في حال ضبط أي سائق غير ملتزم فسيتم مخالفته 500 شيكل وتحويله للنيابة العامة".

ومن أجل ضمان عدم استمرار ظاهرة التخلص العشوائي من المخلفات، أوضح أبو عون بأنه "سيتم تنظيف كل الشوارع من النفايات الموجودة حاليا، حتى تكون مراقبة بشكل جيد من قبل البلديات. كما سيتم اطلاق حملة توعوية لسكان رام الله والبيرة وبيتونيا بعد تجهيز المكب لحثهم على التعاون والتبليغ عن أي مخالفة.

ثروة مهدورة!

الكميات الهائلة للنفايات الصلبة، يمكن أن تتحول الى ثروة تُدرّ أموالا طائلة، اذا ما تم تدويرها واعادة استخدامها، فالأتربة والحجارة والحديد والبلاستيك وكل اصناف النفايات، يمكن فرزها واعادة تصنيعها واستخدامها من جديد كما يحصل في قطاع غزة، يبين أبو عون. مضيفاً "نظرا للحصار في القطاع، فإنهم يقومون بتدوير كل شيء من المخلفات، خصوصا بعد الحرب الأخيرة، ركام المنازل والطمم والحديد والحجارة ، يستخدمونه مرة أخرى في ظل انعدام الخيارات واشتداد الحصار، ليس بالضرورة أن تكون الضفة محاصرة حتى نعيد استخدام النفايات".

قوانين تفتقر للوائح تنفيذية

"العقوبات المفروضة على المخالفين غير رادعة، وهذا أمر يساعد في انتشار هذه الظاهرة"، هكذا علقت سلطة جودة البيئة عبر نائب رئيسها جميل مطور، وطالب البلديات ووزارة الحكم المحلي والجهات الاخرى المعنية، بتوفير مكبات خاصة لهذا النوع من المخلفات الضارة بالطبيعة والبيئة والمنظر العام للقرى والمدن. وأضاف: "الأصل أن يتم نقل هذه النفايات أولا بأول، الى أماكن معتمدة تستوعب هذه المخلفات، ويجب فرزها واعادة تصنيعها، واستخدامها مثلا في أعمال الطمر للنفايات العادية في المكبات، وشق الطرقات التي تحتاج لكميات من الطمم. دورنا في سلطة جودة البيئة غير مباشر في هذا الموضوع، يجب على المستثمر نفسه أن يقوم بالتخلص من هذه النفايات، وعليه أن يتحمل المسؤولية عنها".

وقال مطور انه "في حال ورود أي شكوى عن شخص أو جهة تقوم بإلقاء المخلفات بشكل عشوائي، فإن طواقمنا تزور الموقع، وتطالب البلديات أو الجهة التي قامت بهذا الفعل في حال معرفتها، بإزالتها والتخلص منها بشكل سليم، لأن هذا الأمر يؤثر على حركة المركبات والمواطنين، ويشوه منظر الطبيعة علاوة على الاضرار التي يلحقها بالتربة والمياه وغلق مجاري الأودية".

وتجدر الاشارة الى ان قضية التعامل مع مخلفات البناء منصوص عليها في قانون البناء والتنظيم رقم 79 لسنة 66 خصوصا المادة 27 الخاصة بالأشغال في موقع البناء، والتي تشمل: المحافظة على حياة الناس والعمال أثناء التشييد، والمحافظة على الأرصفة والشوارع، إضافة إلى إزالة الأنقاض.

ومنذ قدوم السلطة الفلسطينية في عام 1994 زخرت مسودة الدستور الفلسطيني بالعديد من القوانين التي تتعلق بالجوانب البيئية. فمن القوانين التي تطرقت إلى موضوع النفايات الصلبة (نصوص المواد من 7-10) والتي تحدثت عن تقليل حجم النفايات وإدارتها والتخلص الآمن منها والمحافظة على البيئة. ولكن ومع كل هذه القوانين فهي تفتقر إلى اللوائح التنفيذية التي تمنع وتلاحق وتعاقب المخالفين، سواء كانوا أفرادا أم جماعات أم شركات ومصانع.

تلويث للمياه الجوفية والسطحية

يرى مدير دائرة المياه في وزارة الزراعة الفلسطينية فرح صوافطة، أن "موضوع القاء الطمم ومخلفات البناء والباطون على اطراف الشوارع يسبب أضراراً كبيرة بالمياه الجوفية، ويساهم في تلوثها، خصوصا اذا كانت المخلفات تحتوي على مواد بلاستيكية أو اطارات مستعملة يتم حرقها، في هذه الحالة التلوث سيكون حتمياً. ناهيك عن اغلاق مجاري الأودية الامر الذي يؤدي الى الفيضانات في فصل الشتاء وبالتالي تلويث المياه السطحية وعيون المياه والينابيع، وتلويث التربة وانجرافها في غالب الاحيان وهو ما يؤدي ايضا الى تغيير معالم الطبيعة الفلسطينية".

كم يبلغ حجم مخلفات الانشاءات؟

لا توجد أرقام محددة عن حجم النفايات الصادرة عن البناء أو الانشاءات، وفي هذا الجانب يقول زهران اخليف مدير دائرة إحصاءات البيئة في الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني: "مخلفات البناء تحديدا قضية لا توجد بيانات حولها، ومن الصعب رصدها، في ظل عدم وجود مكبات خاصة بهذا النوع من النفايات، وبالتالي فإن المصادر التي يجب ان نستقي المعلومات منها لا تتوفر لديها اية تقارير أو معلومات، والمقصود هنا البلديات والمجالس المحلية".

وفي عام 2011 اشارت تقارير الجهاز المركزي للإحصاء أن المخلفات الإنشائية بلغت 27% من مجموع النفايات الصلبة لمجموع النشاطات الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية وهي عبارة عن 75,889 كيلو غرام شهريا من المخلفات حيث تشكل "النفايات الحادة" النسبة الأكبر 36.4 % من حيث نوع المخلفات. الا انه من الملاحظ تزايد نسبة هذه المخلفات في السنوات الاربع الاخيرة في ظل طفرة البناء التي شهدتها الاراضي الفلسطينية.

وتبقى الشوارع الفلسطينية عرضة للتشوه في ظل ضعف الاجراءات الرقابية، وغياب العقوبات الرداعة من جهة، وشبهات الفساد والمحاباة من جهة ثانية. وفي حالة مدينة البيرة، يبقى السؤال: لماذا تتواصل عمليات تشويه بعضالشوارع بمخلفات البناء؟ وهل ستمسك البلدية "طرف الخيط"لوقف هذه الظاهرة؟!

go top