أن تكون مواطنا عاديا وتسافر في اليوم مرتين، يبدو غريباً، لكن ذلك يحدث يومياً على المعبر الحدودي بين الأردن وفلسطين في لعبة تهريب ذكية، أصبحت سبيلاً يومياً لجمع المال لمجموعات وأفراد.
بدأنا في قصة شاب يسافر في اليوم مرتين، ثم أخذتنا بعيداً إلى قصص مجموعات تهريب منظمة، في حالة غير اعتيادية، قد تحشر الحكومة في زاوية اجراءاتها بقطاع التبغ، خلال السنوات الاخيرة.
الحكومة ضحية وجلاد في آن واحد، فهي تتلقى خسارات مالية كبيرة نتيجة التهريب، لكنها طرفاً رئيسياً في ذهاب الأمور بهذا الإتجاه، بعد رفعها سعر الدخان في السنوات الأخيرة بنسبة كبيرة تتخطى حاجز الوضع المعيشي للمواطن العادي الذي بات ليس إلا ضحية في كلتا الحالتين.
تبدأ الحيلة باتفاقية بين مُشغل ومجموعة أفراد، يتكفل فيها الأول بدفع تكاليف السفر لأفراد مجموعته، بيومية قدرها 400 شيقل لكل واحد منهم، مقابل حملهم "كروزات" التبغ المهربة من الأردن إلى الضفة، وتمريرها عبر معبر الكرامة.
وعند العودة يلتقي المُشغل بأفراد مجموعته، يستلم بضاعته ويُسلمهم أجرتهم، كما يفعل "ع. ك"، الذي بدأ العمل بالتهريب بعدما ربح 2000 شيكل في 20 كروز دخان نجح بإدخالها معه أثناء عودته من سفر لزيارة اقاربه في الأردن، على مبدأ "ضرب عصفورين بحجر".
يقول "ع. ك"، إن فكرة عمله بالتهريب بدأت من هنا، ثم دفعه عدم توفر عمل مستقر له، للذهاب بعيداً في التهريب وحده في بادئ الأمر، قبل ان يقرر تشغيل مجموعة تهرب معه لمضاعفة الربح.
ويتحدث عن مجموعته، "شغلت معي عائلة مكونة من 6 افراد، الزوج والزوجة والأبناء.. كنت اعطي الفرد 400 شيكل غير تكاليف السفر".
في مرة واحدة استطاع تهريب 700 كروز عبر مجموعته، وربح 70 الف شيكل عند تسويقها في الضفة، حسب افادته.
يسمي المُشغلون الأفراد الذين يعملون تحت إمرتهم بـ"العتالة".
"مواصلاتهم ومبيتهم على حسابي، اعطي كل فرد 30 كروز ليحملها ويمررها من عند الاسرائيليين ومن ثم الجمارك الفلسطينية، وفي حال ضُبط أحدهم لا يتحمل المسؤولية، وانما يأخذ 100 شيكل"، يقول المُشغل "ع. ك".
لثلاث سنوات على التوالي عمل هذا المُشغل، ثم توقف عن التهريب لكنه جمع ما يكفيه من المال لبناء بيت مساحته 220 متراً في قريته شرقي رام الله.
"يوميا كنا نهرب، واحيانا يوما بعد يوم"، يقول هذا المهرب "المعتزل"، الذي ترك التهريب بعد ضبط 850 كروز حاول تهريبها، دفعة واحدة، ما ادى إلى خسارته فيها مبلغ 7 آلاف دينار.
مجموعات لها مشغلوها، واخرى تشغل نفسها بنفسها، كما يفعل 4 موظفين في القطاع الخاص، احدهم يعمل في شركة معروفة على نطاق واسع، يعبرون الحدود نحو الأردن مرتين في الأسبوع، يقول احدهم "س. ح"، ان كل واحد فيهم يحصَل على 2000 شيكل اسبوعيا، ومتفقون فيما بينهم بأن خسارة احدهم في حالة ضبطه توزع على الكل.
أصبحت مهنة إضافية لموظفين لم تتوقعوا يوماً أن مرابح التهريب ستدفعهم إلى الذهاب بعيداً نحو أخذ التهريب مصدراً لدخل يفوقُ الوظيفة.
"م. ر" هو الاخر موظف بنك، اعتاد على تهريب " كروزات" التبغ، لأكثر من عام، يقول إنه يجني مالاً من عمله في التهريب خلال 4 ساعات في 4 أيام جمعة كل شهر، أفضل من شهريته في البنك.
يستقل سيارته الخاصة، صباح كل يوم جمعة، ويعبر الحدود الى الاردن بعد ركنها في استراحة اريحا، يتوقف عند منطقة الشونة، يشتري البضاعة من 10 الى 15 "كروز" تبغ ويعود مباشرة، العملية لا تستغرق ساعات.
يخضع هذا المهرب عمليته لحسابات ربح وخسارة، يقول: "عامل الحظ هو الحكم، بالعادة نمرر 30 "كروز" في الحقائب، واحيانا يتم ضبطها، في الحالة الاولى نربح 100 شيكل في كل صندوق اي 3 الاف شيكل في ظرف ساعتين، وفي حالة الضبط نخسر 7 دنانير في كل كروز".
مع حساب الفرق بين عمليتي التهريب والضبط، يمكن لعملية تهريب واحدة ان تعوض خسائر ضبط الكمية المهربة في مرتين، فكيف الحال بمشغل مجموعة استطاع تهريب 700 "كروز" متفرقة مع افراد مجموعته من 10-15 اشخاص.
انتشرت الظاهرة خلال السنتين الاخيرتين بشكل واسع بين الافراد، تمر التجربة من مهرب إلى قريبه الى صديقه وهكذا.
"ش. ط" عامل بناء، عرض عليه عمَه العمل معه في التهريب، وفي أول تجربة له ربح ألف شيكل، ثم استهوته الفكرة التي لم تستغرق سوى يوم وليلة ليجني هذا المبلغ، في حين يحتاج لعمل يومي شاق في ورش البناء لتحصيله.
يقول "ش.ط": "خرجت بعد انتهاء عملي في الورشة الساعة الرابعة مساء مع 5 اشخاص، وصلنا للأردن وعدنا في اليوم التالي، انا لوحدي استطعت تهريب 10 كروزات جزء منها في الحقيبة والاخر تحت سترتي الشتوية، ربحت 100 شيكل في الكروز الواحد".
بعض الشبان لا يحبذون المجازفة، ويختارون العمل بيومية جيدة جدا في التهريب مع مجموعة تحت يد مشغل بدلا من الذهاب وحيدا، كي لا يتحمل عبء الخسارة وحده، في حال تم ضبطُ المهربات.
"صديقي يخرج مع شخص يشغل مجموعة من الأفراد معه، يدفع عنه كل تكاليف السفر، وما عليه الا حمل كروزات الدخان وتمريرها من عند المعابر، مقابل أجر يقارب الـ400 شيكل"، يقول "ش. ط".
"م.ف" شاب في أوائل العشرينيات من عمره، خرج لـ5 أو 6 مرات، وحده كي يجني مرابح اكبر، ثم ترك التهريب لتفضيله عملا مستقرا على التهريب.
ما يحدث ليس عادياً، يتحدث المهربون عن مهرب خبير وآخر مبتدئ، ولا يخلو ذلك من مسميات يتداولونها فيما بينهم، يقول احد المشغلين "اصبحت ورقتي محروقة"، ويقصد انه بات معروفا بسوابق التهريب لدى الجمارك، لذا فإنه يعبر الحدود ويعود بأيدٍ فارغة، فقط يدير عملية التهريب ويشتري البضاعة للأفراد، كون احتمالية تفتيشه في كل مرة واردة.
يُلم المهرب مع مرور الوقت بنقاط الضعف عبر الحدود، والفترات الأنسب للتهريب. يقول المهرب "م.ف": "كنا نهرب في فترات منتصف الأسبوع خاصة التي تشهد أزمات،" إذ تنخفض الرقابة على المتنقلين عبر المعابر في هذه الفترات.
ولعامل الخبرة في طرق التفتيش على المعبر، أجمع غالبية المهربين أن العنصر النسائي حاضر بقوة، يعود ذلك الى عدم تركيز افراد الجمارك على المرأة بقدر الانتباه للرجل عند المرور عبر نقاط التفتيش، حسب إفاداتهم.
ويقول الرائد عبد الكريم البسايطة من الضابطة الجمركية ان ظاهرة جماعات التهريب موجودة، ويسمونهم "تجار الشنطة"، لكنهم يحاولون قدر الامكان ضبط عمليات التهريب.
كافة المهربين قالوا انهم يعتمدون بالاغلب على تمرير البضاعة المهربة دون المرور عبر نقطة الجمارك الفلسطينية بعد المعبر، وذلك بالاتفاق مع "تاكسي" اسرائيلي لحمل البضاعة ونقلها عبر خط 90 ومن ثم الالتقاء مع صاحب البضاعة في مكان اتفقا عليه، لقاء مبلغ مالي للتاكسي الاسرائيلي.
في هذه الحالة يتم الالتفاف على الجمارك، يقول مدير عام الجمارك لؤي حنش: 90% من التهريب يتم عبر خط 90 وحاولنا مراقبة الشارع من قبل الضابطة الجمركية لكن اسرائيل تمنع ذلك.
ويقر الرائد عبد الكريم البسايطة من الضابطة الجمركية بما اسماها" محاولة خطيرة" للتهريب من خلال الطرق الالتفافية، لافتا الى ان دوريات الضابطة تحاول الرقابة على هذا الشارع.
وفي حالة اخرى يذهب المهرب مع "التاكسي" دون ختم جوازه عند العودة.
هنا يقول المهرب "ع.ك"، إنه وزملائه المهربين الذين يعرفهم من بلدته، اتفقوا مع موظف في الجمارك لختم جوازاتهم عندما يضطروا لتعدي الجمارك الفلسطينية عبر خط 90، لقاء اعطائه كروز دخان عن كل جواز، قبل كشف الامر من قبل الادارات العليا في الجمارك.
لا يجد المهربون أي صعوبة في تسويق الدخان المهرب، "أي محل تجاري هنا يشتريها مباشرة" يقول المهربون، حتى أن المهرب لا يحتاج الى الخروج من قريته، يوزع كميته على البقالات مباشرة.
وتستفيد المحال التجارية من إقبال المدخنين على التبغ المهرب الأقل سعراً من التبغ القانوني، اذ يشتري كروز الدخان المهرب بـ150 شيكلا اذا كان من صنف LM، في حين سعر المرخص 220 شيكلا، ما يعني فرقية تصل إلى 70 شيكل.
يقول صاحب محل تجاري صغير في قرية شرق رام الله: "أبيع "كروز" التبغ المهرب الذي يحوي 10 علب سجائر في ظرف يومين، مقابل بيع علبة سجائر واحدة من التبغ المرخص".
يضع اصحاب المحال التبغ المهرب في مكان غير مكشوف داخل المحل، كي لا تضبطه طواقم الرقابة من الجمارك، "لم يسبق وأن دخلت الجمارك الى محلي هذا، لكن الحذر واجب"، يقول صاحب المحل.
سهولة العملية والمرابح الكبيرة الى جانب البطالة وارتفاع سعر التبغ المستورد، دفعت الى مزيد من الاقبال بين افراد المجتمع على تهريب التبغ.
يقول لؤي حنش، إن التسويق الاكبر يتم في المناطق المصنفة "ج"، لعدم وجود سيطرة فلسطينية تؤدي الى مراقبة المحال التجارية كما يجب.
لكننا وثقنا شهادات عدد من المهربين يقطنون في قرى تقع تحت سيطرة السلطة، يقولون ان الرقابة شبه غائبة.
في حين يقول حنش: "عند دخول محل في قرية ما، تقوم باقي المحال بإغلاق ابوابها وفي الخليل كسرت سيارتنا عند محاولة ضبط بضاعة مهربة".
ويضيف حنش: "كي تنزل الضابطة الجمركية بسلاح، لتقوم بعملها كما يجب، تحتاج لتنسيق امني..وصولنا لمناطق ج يكون باستحياء".
عدم السيطرة الفلسطينية على المعابر ولا حتى ما بعد المعابر، كحيلة "خط 90" مثلا، دفعت السلطة الى البحث عن وسيلة لقطع التهريب من مصدره، بمنع الافراد من شراء كميات كبيرة من الاسواق الحرة في الاردن، لكن هذا ليس ممكنا على الجانب الاردني.
وتسعى الجمارك الفلسطينية لايجاد صيغة تفاهم مع الاردن لتحديد الكميات المسموح بيعها للفرد في السوق الحرة، "لكن الاخير لا يبدي تعاونا في ذلك مرجعا السبب في ذلك الى عدم وجود قوانين تمنع اصحاب الشركات الخاصة في السوق الحرة من تحديد الكميات المسموح بيعها للافراد"، يقول مدير الجمارك لؤي حنش.
وفي محاولة لمكافحة الظاهرة يقول حنش انهم بصدد اصدار رخص لبيع التبغ للمحلات التجارية، وسحب الرخصة من اي محل يبيع التبغ المهرب.
ولا تنحصر عملية التهريب بالمعابر الحدودية من الاردن فقط، انما جزء كميات كبيرة يتم ضخها من اسرائيل الى الضفة، كما يقول حنش.
المهرب لا يواجه اي مخاطر في كل الحالات، ففي حال ضبط الكميات المهربة معه، يتم مصادرتها والسماح له بالعبور.
يقول عضو مجلس إدارة جمعية حماية المستهلك، د. محمد شاهين إن الخلل يكمن في القانون الفلسطيني لعدم احتوائه على اي مادة صريحة وواضحة تعاقب هذا النوع من التهريب.
تخسر السلطة الفلسطينية نتيجة تهريب التبغ ما بين 500 و600 مليون شيكل سنوياً، أي ما يزيد عن النصف مليار.
يقول لؤي حنش، إن التهريب يشكل ما نسبته 20_30% من حجم السوق من التبغ.
وتشكل شركات التبغ في الضفة أكبر قطاع من دافعي الضرائب للسلطة، بحسب حنش.
هذه الخسائر خارجة عن عملية الضبط، ففي عام 2015 ضبطت الجمارك الفلسطينية 14 الف "كروز تبغ" على المعبر، وضعف الكمية ضُبطت من قبل الطرف الاسرائيلي، كلها كانت في الطريق للضفة.
وبشأن ضريبة التبغ، أوضح تقرير لوزارة المالية، أن الخزينة جمعت 168.1 مليون شيقل ما نسبته 69% من حجم الميزانية الفعلي خلال الأشهر 11 من عام 2015، في حين شكل حجم الضرائب 221.7 مليون شيقل من الفترة ذاتها من العام 2014.
ويُقدر عدد "كروزات" الدخان التي تدخل الضفة من الاردن بشكل قانوني، بمليون و400 الف كروز، اذا افترضنا ان كل مسافر من بين 700 الف سنويا سيحمل معه فقط "2 كروز دخان" وهي الكمية المسموح ادخالها مع المسافر، كما يقول حنش.
اما بالنسبة للمعسل، فإن 90% من الموجود في الضفة هو مهرب، يقول حنش. يرجع ذلك لسببب رئيسي هو الفارق الكبير جدا بين سعر كيلو المعسل المهرب، والقانوني.
وتنقسم اراء المواطنين، بين من يرى ان هذا التهريب مبرر وحق للمواطن، في ظل سياسة الحكومة في فرض ضرائب عالية على التبغ، مقارنة بدول اخرى، حتى بات التهريب مهنة لكثير من الشباب الذي يعاني من ارتفاع نسب البطالة وغلاء المعيشة، وقسم اخر يرى ان على الحكومة اعادة النظر في سياساتها في قطاع التبغ اولها سعر علب السجائر المرتفع، لوقف هذه الظاهرة.