آراء حرة

لحظات ما قبل العاصفة: إما الربيع وإما الفوضى

لحظات ما قبل العاصفة: إما الربيع وإما الفوضى

بقلم: مجدي أبو زيد- ناشط مجتمعي

حدثنا صديق لنا خلال سهرة رمضانية -وقد كان قائداً وخبيراً هاماً في أحد أهم أجهزة الأمن قبل أن يتم تحييده- أنه كان يعتقد خلال عمله السابق في الأمن أنه يعرف كل شيء عن أوضاع البلد من خلال التقارير الأمنية والتحليلات عالية المستوى، ولكنه الآن وبعد أن اقترب أكثر من العامة ومن الطلاب ومن أساتذة الجامعات ومن الناس إجمالا أصبح يدرك أنه كان مخطئاً وأنه أضحى يرى الصورة بشكل مختلف تماماً عما يراه القادة من فوق. وقال أيضاً أنه يعتقد أن الوضع أكثر من خطير وأننا في أسوء أحوالنا وأن هذه الحالة على الرغم من خصوصيتها إلا أنها جزء من حالة المنطقة والعرب المحبطة والمهزومة.
المشكلة الأساسية أن هناك مقاومة شديدة تجاه الإقرار بوجود مشكلة مأساوية في واقعنا الحالي وعلى كافة الأصعدة، حيث يعتقد المسؤولون في هذا البلد أن مجرد فتحهم وإدارتهم لحسابات وصفحات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتنزيلهم لصور وبوستات عن أنشطتهم "المتواضعة"، وحصولهم على مئات اللايكات خلال دقائق من المعجبين و"السحيجة" والمنافقين، يعتقدون أن هذا مؤشر على أنهم والبلد بخير، وأنهم في عز عطائهم وشعبيتهم نتيجة لكم النفاق الهائل الذي ينصب عليهم (منور يا قائد، كبير يا زعيم، الله يعطيكم العافية على مجهوداتكم الكبيرة معاليك، ...الخ) بالرغم من أن الأمر قد يتعلق بلقاء أحد ممثلي المشاريع الأجنبية الصغيرة، وهو أمر مخصص بالأساس للمهنيين في المستويات المتوسطة ولا يليق بمستوى سياسي رفيع أن يلتقي ويتدخل بهذا النوع من الأنشطة والمستويات.
ويستسهل هؤلاء القيادات اتهام الناس المعارضين والناقدين للسياسة العامة ولطريقة إدارة البلد بأنهم "أبواق" و"أصحاب أجندات" و"مدفوعين" و"متآمرين" وكأنهم هم من يقود الثورة ويحتكر القلق على وضع الوطن. والحقيقة، أن السبب الأساسي وراء هذا السلوك هو قلق الأغلبية الساحقة منهم بالأساس على مكانتهم الاجتماعية ووضعهم وامتيازاتهم الوظيفية، بالإضافة إلى عدم رغبتهم في الخوض بنقاش جدي وحقيقي يفتح أعينهم على الحال المُبكي الذي وصلنا اليه. ويستمرون في الإشارة إلى ضرورة الانتباه إلى نصف الكأس الممتلئة، وهي مقولة مل الناس سماعها وأصبحت تستفزهم بسبب الشعور بأن هناك من يصر على استغفال الناس والاستهانة بهم.
ما هي الإنجازات التي نتحدث عنها والجميع يرى أن الحكومة وأجهزتها الاقتصادية والرقابية والعقابية فشلت تماماً في السيطرة على الارتفاع الحاد لأسعار اللحوم والتي تتكرر كل عام في شهر رمضان، وفشلت في توفير غاز التدفئة للمواطنين خلال أشهر البرد القارص على الرغم من احتكارها لهذا القطاع الحيوي وتكرار نفس المشكلة سنوياً، وفشلت في منع تدفق سلع المستوطنات والمواد الغذائية الفاسدة، وفشلت أيضا في الرقابة على جودة المنتجات الوطنية التي ذكر أخر تحقيق استقصائي بشأنها أن بعضها عبارة عن سم قاتل.
لقد مل الناس أيضاً من سماع الخطابات المكررة عن عدد البيوت التي تم إعادة إعمارها في غزة لعلمهم أن آلية إعادة الإعمار تتم بمعزل عن الحكومة وتقوم بها جهات دولية وعربية مختلفة وبشكل مباشر. غزة التي تغرق في الظلام والحصار والإحباط، وتعاني من نقص الماء الصالح للشرب ونقص مواد البناء وفقدان الأمل دون أي تدخل حقيقي وجدي لإنهاء معاناة الناس.
الانقسام بين الضفة وغزة يترسخ، والأمور تسير تجاه نموذج "دولة قبرص التركية" في غزة كما يقول خالد الحروب في أخر مقال نشرها بعد الإعلان عن فشل حوار المصالحة الأخير في الدوحة. ويقول أيضا أن حكومات فتح وحماس المتعاقبة نجحت نجاحاً باهراً في حماية أمن إسرائيل وفي ترسيخ الانقسام؛ هذه الحقيقة مع الأسف أصبح يدركها الجميع.
كما ويدرك المواطنون أن اغلب المسؤولين الرسميين يذهبون بأولادهم إلى المدارس الخاصة، وفي نفس الوقت يتغنى مجلس الوزراء بإنجازات التعليم الحكومي. وتقوم وزارة الصحة بالإعلان عن إنجازات صحية كبيرة في الوقت الذي يرى الناس بأعينهم أن كبار مسؤولي الدولة لا يثقون بهذا النظام ويسارع نفس الذين يدّعون بحصول التطور والقفزة الصحية بتسهيل تحويلهم على حساب الشعب الفلسطيني إلى المشافي الإسرائيلية والأردنية عندما يتعلق الأمر بالمسؤولين أو أبنائهم ومعارفهم. لقد أمضيت قبل أيام ليلة كاملة في أحد ممرات مجمع رام الله الطبي اجلس بجوار ابني الذي وقع على رأسه وهو يلعب وأصيب بشعر في الجمجمة لكي أراقبه خوفاً من حدوث نزيف بالدماغ. هذا الطفل لم يدخله الطبيب إلى المستشفى وبقينا على المقاعد المقابلة لغرفة رقم (6) بالطوارئ، وأنا أصارع نفسي وقيمي التي تمنعني من الاتصال وطلب خدمة من الأصدقاء لإدخاله إلى المستشفى وتصويره طبقياً والاهتمام به وبين ابني الذي يمكن أن يكون في وضع خطير. هذا ما يحدث للمواطن العادي، فهل يحدث هذا للمسؤولين وأبنائهم؟
وبالرغم من الاتفاق على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وفقاً لحوار القاهرة واتفاق الشاطئ، إلا أن الحكومة المكلفة بالتحضير للانتخابات فشلت في مهمتها لاعتبارات سياسية تتجاوز قدرات الحكومة وإمكانياتها. أما المؤشر الحقيقي والذي يدخل في صلب عمل الحكومة ويدل على عدم جديتها في التحضير للانتخابات فيتعلق بالتضييق على لجنة الانتخابات المركزية وتقطير التحويلات المالية لها وإغراقها في الديون على الرغم من جهود اللجنة الهادئة لحل الموضوع وتوجهها لأكثر من مرة إلى الرئيس ورئيس الوزراء ووزير المالية ومن تكليفها بالتحضير للانتخابات المحلية.
أغلب الفلسطينيين يعتقدون بأن الفساد يزيد، وقد أشار اخر استطلاع أجراه "أوراد" إلى أن 95% من الفلسطينيين يعتقدون بأن الفساد يزيد. ولا شك أن هذا المؤشر الخطير جداً مبني على انطباعات خاطئة نتيجة لحالة النقمة والإحباط والغضب الشديد لدى الجماهير الفلسطينية من الأداء السيء للحكومة الفلسطينية –بالرغم من النية الطيبة- ولمجمل النظام السياسي الفلسطيني. فالفلسطينيون يفيقون كل يوم على أخبار تزيد من إحباطهم ومن نقمتهم تتعلق أغلبها بتعيين أبناء القيادات والمسؤولين في وظائف السلك الدبلوماسي والنيابة العامة والقضاء وغيرها، على ضوء نسبة بطالة عالية تتجاوز أل 40% بين صفوف الشباب والمتعلمين.
وفي كثير من المناطق لا ينام المواطنون ويشعرون بالقلق الدائم بسبب حالات الإزعاج والفلتان الأمني والزعرنة والتفحيط بالسيارات والأزمة المرورية الخانقة، بل وقد أصبحنا نلمس عودة مجنونة للتحرش في الشوارع من قبل فتيان لا تتجاوز أعمارهم أل 18 عاماً لنساء في عمر أمهاتهم. وبالرغم من تحرك الشرطة للتصدي لهذه الظاهرة في بعض الأوقات ونتيجة للضغط الشعبي الكبير، إلا أن هذه التحركات موسمية وتفتقد للإرادة الحقيقية وتواجه بعقبات وثغرات قانونية، بالإضافة للتدخلات والواسطات عند الاصطدام بأبناء المسؤولين وكبار رجال الأعمال المتورطين إلى حد كبير في أعمال الزعرنة وسوء استخدام السيارات وقلة الأدب بالشوارع.
الناس لديها قناعات راسخة أن الأمن الفلسطيني يعمل على حماية أمن إسرائيل –كما صرح دكتور شعت قبل أيام من أن السلطة تنفق لحماية امن إسرائيل أكثر مما تنفق على التعليم للفلسطينيين- وعلى حماية المسؤولين والنظام السياسي أكثر مما يعمل على حماية الفلسطينيين وأمن المجتمع. والأحزاب الفلسطينية في قيلولة مزمنة، ومنذ زمن لا نسمعهم إلا عندما يدافعون عن قياداتهم أو عندما "يردحون" لبعض على شاشات الفضائيات.
ومن الواضح أن الإيمان بمشروع بناء المؤسسات والتحضير للدولة أصبح أسطوانة مشروخة ومستهلكة لا تنفع ولا تصمد أمام أي حوار جدي لتشخيص الواقع ووضع الحلول. فالحكومات الفلسطينية في الضفة وغزة أولى أولوياتها المعلنة –حتى أنها أحد أهم أسباب استمرار الانقسام- هي دفع فاتورة الرواتب للموظفين المدنيين والعسكريين –وكأن باقي الشعب بخير- التي يأتي جلها من الضرائب الباهظة التي يدفعها الرازحون تحت نير الاحتلال. ويبدو أن الهم الأكبر والشغل الشاغل للموظفين الأمنيين والمدنيين هو تأمين الراتب وتحسين الوضع الوظيفي وتحصيل أكبر قدر ممكن من الامتيازات على حساب العمل والإنجاز، مع ما يتطلبه هذا من تعزيز لنظام الاصطفاف والنفاق والولاءات والعلاقات الشخصية.
يمكن أن يستمر الوضع الحالي لسنوات، ويمكن أن تنفجر الأمور عند أول حادث سير يكون ضحيته مواطن عادي، ويكون الجاني سائق متهور أهداه والده سيارة مرسيدس بمناسبة تخرجه من التوجيهي. ويمكن أيضاً أن يخرج الشباب إلى الشوارع مطالبين بالوظائف اسوة بأبناء المسؤولين كما كان سيحدث في غزة لولا قمع أمن حماس لهم.
لا يمكن تجاهل هذا الوضع الخطير، ولا يمكن استمرار التعايش معه. كما ولا يمكن أن يحدث التغيير باستخدام نفس الأدوات ووفقاً لنفس الشروط وقواعد اللعب الحالية. إما أن تقلب القيادة الطاولة وتنتبه إلى المصالح الوطنية والحقائق والظروف الداخلية والخارجية وتتخذ خطوات إصلاحية حقيقية تشارك فيها الناس وتتصارح معهم وتؤسس لربيع فلسطيني هادئ، وإما أن تُقلب الطاولة فوق رؤوسنا جميعاً في أي لحظة وتعم الفوضى.

**المقالات والآراء المنشورة تعبر عن رأي أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي أمان
go top