تحقيق : أمجد ياغي
لم يعد مرضى كثيرون من قطاع غزة يُقبلون على عمل الإجراءات السليمة للحصول على تحويلة طبية تؤدي بهم إلى العلاج خارج القطاع، فنسبة كبيرة صارت تلجأ عند حاجتها، أو اضطرارها، إلى مستشفيات الخارج، للعمل على الوصول إلى واسطة أو استخدام بعض النفوذ لهم في رام الله المسؤولة عن هذه التحويلات، فضلاً عن سبل أخرى كالمحسوبية (العائلية أو التنظيمية)، وكذلك الرشوة. ولأن من يتخذ الإجراءات الروتينية طريقاً، فإنه قد يموت قبل وصوله إلى بوابة معبر رفح، جنوباً، أو بيت حانون شمالاً، فإن المرضى وصلوا إلى مسلّمة تقول إن «الواسطة أساس التحويلة»*
أمجد ياغي
غزة | تظهر أولى معالم الفساد في التحويلات الطبية بسعي بعض الغزيين، في ظل إغلاق معبر رفح وغياب تسهيلات السفر، إلى الحصول على تحويلة طبية لضمان دور له في الخروج من قطاع غزة، مع أن الشخص الذي يفعل ذلك قد يكون غير مريض، وهو يحصل على التحويلة بمساعدة بعض الأطباء الذين يأخذون منه رشوة مقابل إعطائه «نموذج رقم واحد» المخصص للتحويلات، وفق إفادة مصادر في وزارة الصحة، فضلاً عن جهاز «المباحث الطبية».
وهؤلاء بالطبع، يأكلون دور غيرهم من المرضى المستحقين، خاصة الذين ليست لهم معارف في رام الله، أو لا يستطيعون دفع رشوة. وفي هذا التحقيق رفضت بعض العائلات إظهار اسمها لحاجتها المتواصلة إلى تحويلة من أجل المراجعات الطبية المجدولة، ولكننا حرصنا على تسجيل أقوالهم عبر جهاز مخصص.
سعيد حرب، أسير محرر يبلغ من العمر 28 عاماً، قضى في سجون الاحتلال سبعة أعوام، وكان لحظة اعتقاله قد أصيب بعيار ناري في وجهه أدى إلى تهتك الجبهة اليسرى من الفك وتشوه في شفتيه، إضافة إلى كسر لعظمة الأنف التي جعلت عملية التنفس صعبة بالنسبة إليه على مدار أعوام اعتقاله حتى الآن. كذلك حُرم ارتداء نظارته داخل السجن، ما أثّر في نظره، إذ تشير تقاريره الطبية التي اطلعنا عليها إلى أن لديه تشوهاً في الوجه، وهو وبحاجة ماسة إلى العلاج وعمليات التجميل.
حصل حرب بعد الإفراج عنه على تقرير «إصابة أحداث الأقصى»، وهذا التقرير يمكّنه من العلاج داخل المستشفيات الأردنية وغيرها، باعتباره حالة خاصة تحتاج متابعة طبية، ولكنه منذ عام لغاية الآن لم ينل ذلك. بسبب هذه الحال، يبحث سعيد عن واسطة، وتبرر هاجر حرب ــ وهي أخت الأسير وتعمل مراسلة تلفزيونية ــ اضطرارهم إلى ذلك بسبب استحالة علاج أخيها في غزة، وتهرب المسؤولين من الوقوف معه.
زار حرب إدارة مستشفيات أبو يوسف النجار والمستشفى الأوروبي، جنوبي القطاع، لكنه لم يحصل على أي تقرير يمكّنه من الحصول على «نموذج 1»، بل قال له أحد الأطباء: «إيش نعملك، بدك تستنى لأنه المعابر مغلقة عليك وعلى غيرك». تشرح هاجر أن أخاها يعيش حالياً على المسكنات ومراهم لعينيه، ويعاني فطريات شديدة. وتضيف: «أكد له وفد طبي أوروبي زائر قبل أشهر أن عملية التجميل التي يحتاجها لا يصلح عملها في غزة، ونسبة نجاحها في ظل الإمكانات المتوافرة هي 40% فقط».
يروي الأسير المحرر أن نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، زار منزله بعد الإفراج عنه، ووعده بالوقوف لجانبه وسفره للعلاج. لكن انتظاره طال. تكمل هاجر: «من يحتاج إلى العلاج في الخارج، إن كان يتبع لحزب فإنه يقف معه ويساعده في السفر، لكن أخي الآن لن يسافر لأنه ليس في إطار أي حزب»، مضيفة: «أحد القادة السياسيين تلقى علاجه في الخارج بصورة سريعة وجرى التنسيق له لخروجه وعودته، ولا يزال أخي وآخرون كثيرون ينتظرون».
وتتهم هاجر، ومعها عائلات أخرى، أن ملف التحويلات الطبية في غزة يدار بغير عدالة، إذ يعاني بعض الأشخاص أمراضاً يمكن علاجها في غزة، لكنهم يمنحون تحويلات خارجية، وآخرون يموتون على عتبات أقسام التحويلات دون أن ينظر إليهم أحد، ما دعاهم إلى المطالبة بإيضاح المعايير التي يجري التعامل بها مع الحالات المرضية.
في هذا الإطار، لاحظ مُعدّ التحقيق، خلال زيارة عدة عائلات ممن لم يحصلوا على التحويلة الطبية، حديث بعضهم عن أنهم لا ينتمون إلى أحزاب سياسية، وخلال البحث تبين أن الأحزاب في غزة لها لجان خاصة لمساعدة جرحى التنظيم وعلاجهم في الخارج، وهي تركز على مساعدة جرحاها للسفر وحجز دور متقدم لهم إذا فُتح معبر رفح، على اعتبار أنها يصعب عليها تحويلهم عبر «بيت حانون» الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، عدا حركة «فتح» التي تنسق عبر أذرعها في السلطة.
وبالاطلاع على الإجراءات التي تقوم على أساسها التحويلات الطبية، فإنه بداية يفتح ملف طبي للمريض في المستشفى الذي يعالج فيه، وإذا كانت الحالة تستدعي العلاج في الخارج فإنها تطلب الحصول على «نموذج رقم واحد»، وفيه توصف الحالة المرضية بدقة، ثم يعرض المريض على لجنة من دائرة العلاج في الخارج ــ مكتب غزة لتستكمل باقي الإجراءات. وتتكون اللجنة من خمسة أو ستة أطباء من عدة تخصصات، تعطي موافقة مبدئية على التحويلة إلى أن تعتمد من الضفة، علماً بأن اللجنة تجتمع يومين في الأسبوع: الاثنين والخميس.خلال عام ضبطت 40 حالة مخالفة في نظام التحويلات
حاولنا الحصول على أرقام دقيقة لعدد الشكاوى المقدمة ضد سياسة التحويلات الطبية في غزة عبر مؤسسات حقوقية أو أهلية، لكننا لم نحصل على رقم دقيق، لعدة أسباب، منها غياب ثقافة الشكوى لدى العائلات أو المرضى، إضافة إلى أنه لا توجد آلية واضحة لتقديم الشكوى. وباستطلاع سريع لبعض المواطنين في غزة عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن مستوى النزاهة في التحويلات الطبية، أكدت الغالبية 90% أنه لا توجد نزاهة في ذلك، فيما قالت 10% إنها لا علم لها بالتفاصيل.
وتقول النسبة العالية في الاستطلاع إنها رصدت حالات كثيرة للتحويلات بناءً على واسطة في وزارة الصحة في رام الله أو إحدى الشخصيات الاعتبارية التي يمكنها عبر «بيت حانون» تحويل المريض إلى مستشفيات إسرائيل أو الأردن أو الضفة المحتلة. ولا يعفي هؤلاء حكومة غزة من الأمر نفسه، إذ إن التحويلات الصادرة من القطاع تخوّل المريض السفر إلى مصر أيضاً.
ووفق استطلاع آخر نفذه الائتلاف لأجل النزاهة والمساءلة «أمان» في عام 2014، أوضح أن 80% من سكان غزة أكدوا أن الواسطة موجودة للحصول على الخدمات، و32.2% منهم أكدوا أن سبب عدم التبليغ عن الفساد هو «عدم القناعة بجدوى التبليغ، لأنه لن تتخذ الإجراءات بحق الفاسدين»، فيما رأى 65.6% أن العقوبات المتعلقة بجرائم الفساد غير رادعة.
وخلال بحثنا في أكثر المناطق تهميشاً في غزة، وتحديداً في شمالها، حيث قرية أم النصر البدوية، وجدنا الطفلة منى (9 أعوام) وهي جالسة داخل منزل تغطيه ألواح الإسبست. تنتظر الطفلة من ثلاثة أشهر تحويلتها الطبية إلى مستشفى إسرائيلي، فهي تعاني بسبب وجود مياه في دماغها تسبب لها صداعاً دائماً ودواراً، علماً بأنها حصلت على «نموذج رقم واحد» بعد معاناة كبيرة وبقائها في قسم الأورام.
فضلاً عن المعاملة «الجلفة» في الدائرة المسؤولة عن التحويلات، نصح أحد العاملين في الدائرة والدة منى بأن تبحث عمّن يساعدها في التحويلة، وإلا فستنتظر كثيراً، ولكن الأم تؤكد أنها اضطرت إلى الانتظار ستة أشهر من أجل عجزها عن السير بغير الإجراءات الروتينية وهي «تطعم» ابنتها المسكنات كي تحصل على التحويلة، برغم أن حالات أخرى كانت في غرفة منى نفسها سافرت بصورة سريعة. والأمرّ من ذلك، أنه برغم حصولها على النموذج اللازم، فإنها لم تستطع السفر إلى الآن، لأن السفر أيضاً يحتاج إلى واسطة.
أكثر من ذلك، فأحد المصابين بسرطان الدم، ويدعى شوكت (26 عاماً) حصل بعد أشهر على النموذج المطلوب، ولكنه لا يزال ينتظر الموافقة في رام الله للخروج، وقد تكرر نصحه بالبحث عن واسطة. ويضيف: «الكتل السرطانية صارت تنتشر في جسمي أكثر من ذي قبل، وكلما توجهت إلى مكتب التحويلات يبلغونني بمشكلات أمنية تحول دون إرسال رام الله للتحويلة».
ومن أكثر ما يعوق سير التحويلات الطبية، الاشتباه في النزاهة في منح التحويلات، إذ يروي أحدهم (أ.خ) أن ابن عمه سافر إلى الضفة بحجة تحويلة طبية، ولكنه حينما وصل هناك توجه إلى مصنع خياطة للعمل مع أخيه الذي يقيم في الضفة منذ أيام الانقسام الفلسطيني. كذلك تؤكد موظفة كانت تعمل لدى أحد مكاتب السياحة والسفر أن بعض الأشخاص يستغلون نفوذهم في السلطة لتحويل بعض الحالات إلى الخارج، غير مستبعدة تلقيه رشوة في سبيل ذلك. وأوضحت تلك الموظفة أنها تعلم بحكاية موظف قديم في السلطة موجود في القاهرة منذ ثلاث سنوات، وهو «شقيق وزير في رام الله، ويعمل على تسهيل سفر كثيرين من غير المرضى بحج التحويلات الطبية».
وفي البحث عن إجابات، قابلنا عدداً من الجمعيات التي تقدم مساعدات للمرضى وتعمل على الحصول لهم على تحويلات طبية. لكن معظمهم رفضوا التصريح بأي معلومات تخوفاً من عدم التعامل معهم لاحقاً في حال ظهور أسمائهم خلال التحقيق، ولكن أحدهم شرح أن «الواسطة والمحسوبية منتشرة وصارت هي الوضع الطبيعي». كذلك تظهر مشكلة أخرى، وهي أن بعض المرضى العائدين، كانوا يشتكون لتلك الجمعيات، سوء العلاج الذي تلقوه، متهمين الأطباء بسوء التقدير في تحديد المستشفيات الأفضل لعلاج كل حالة على حدة.
ووفق مديرة «برنامج العون والأمل لرعاية مرضى السرطان»، إيمان شنن، فإنه جرى تحويل 6150 مريضاً عبر معبر بيت حانون «إيريز» في 2014 وغالبيتهم مرضى أورام، في حين أنه منذ بداية العام الجاري حتى أيار الماضي دخل «بيت حانون» 2109 حالة. وذكرت شنن أن عدداً من المرضى توجهوا إلى بعض مستشفيات الضفة وصدموا بأن علاجهم ليس موجوداً هناك. تضيف: «غزة سقطت من كل الحسابات في موضوع العلاج في الخارج، فهناك من يفرق بين مريض الضفة وغزة، ولا يوجد نظام واضح للعلاج الخارجي... ثمة حالات تلقت مصيرها في الوفاة، وهي تنتظر نموذج رقم واحد والتحويلة على حداء سواء... في المقابل حصل مرضى على تحويلة قيمتها 100 شيقل فقط (26 دولاراً)!».
مدير «المباحث الطبية» في وزارة الداخلية في غزة، محمد المعصوابي، أقر بأن التحويلات الطبية «ملف شائك»، ويحتاج إلى متابعة ومراقبة دائمة بالتنسيق مع الصحة في رام الله، لأنها المسؤولة عن دائرة العلاج في الخارج التابعة لها، مشيراً إلى أن عدداً من الحالات يلجأ للتحويلة الطبية لتقضي مصالح أخرى خارج غزة، وتحمل «تقارير طبية ليست سليمة».
وصنف المعصوابي التجاوزات في «التحويلات» إلى ثلاثة: التحويلات المزورة، وتحويلات يحصل عليها المريض برشوة يقدمها للطبيب، والصنف الأخير سببه «دافع إنساني» بسبب ظروف معينة لصاحب التقرير يضطر إلى ذلك من أجل السفر إلى الضفة أو غيرها. وفي النقطة الأخيرة، لفت إلى أن من هذه الأغراض «الزواج أو التجارة وغيرها».
أما على صعيد التزوير ــ الذي يعتبر قانونياً جريمة ــ فأفاد المعصوابي بأنه أُلقي القبض على أربعة مزورين، اثنان من شمال القطاع واثنان من الجنوب، ولهم باع طويل في التزوير، خصوصاً في التحويلات الطبية. هؤلاء يعملون على تغيير البيانات الشخصية ويبقى التشخيص كما هو مع ختم الأطباء.
كذلك ألقت «المباحث الطبية» القبض على بعض الأطباء ممن تلقوا رشوة مقابل إعداد تقرير نموذج رقم واحد، وتبين ذلك بعد التحقيق مع المرضى الذين أدلوا بأن الأطباء من منحهم التقارير مقابل مبلغ مالي، ومنهم «أطباء مشهورون... تنتهي قضاياهم بإرسال الملف للنيابة العامة».
وبناءً على معلومات «المباحث الطبية»، فإنه ما بين حزيران 2014 إلى حزيران 2015 جرى التحرز على قرابة 40 حالة مخالفة في نظام التحويلات «منها 36 بفعل مختصين في المجال الطبي، و4 حالات تزوير». ولا ينفي المعصوابي وجود محسوبية عالية في التحويلات، خاصة في بعض الحالات العاجلة التي يمكن عملها خلال يومين، ولكن الواسطة تسرع إجراء التحويلة في أقل من عشرة أيام بعد الاعتماد المالي والإداري في الضفة.
يقول مدير دائرة العلاج في الخارج التابعة لوزارة الصحة في رام الله، بسام البدري، بعد اطلاعه على نتائج التحقيق، إنه «لا واسطة في الدائرة، وهناك تشديد على ورقة التحويلة التي تعطى للمريض نفسه... أي مواطن يستطيع الوصول إلى مكتبي والمطالبة في حقه، إلا إن كان ثمة أطباء يستغلون المريض الذي يقبل ذلك».
وعلى صعيد التقارير الطبية بدافع الرشوة من الأطباء، أفاد البدري بأنه لا يعلم بهذا الموضوع، لكنه على استعداد «لاستقبال كل من له معلومة»، ملقياً المسؤولية على إدارة المستشفيات، لأن «عمل دائرتنا هو التدقيق في الملفات من ناحية طبية وكشفها، إذ ظهر لنا أن كثيرين ليسوا مرضى بالفعل».
وتقول «دائرة العلاج في الخارج» إنها اكتشفت تزوير بعض توقيعات أطباء، واتُّخذت إجراءات قانونية بحق مزورين. ولكن البدري يؤكد أنه قبل شهور كانت الدائرة تمر بعدة مشكلات في التنسيقات وغيرها، لكننا تمكنا من السيطرة عليها... إن كان في الدائرة رشى وواسطات في الماضي، ففي الوقت الحالي لا وجود لهذه الأمور، بل جرى القضاء على هذه الظواهر».
أُنجز التحقيق بالتعاون مع الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة «أمان»، وبدعم من الاتحاد الاوروبي