آراء حرة

أَهميّةُ السُّلطةِ القَضَائيّةِ في بِناءِ نِظَامٍ دِيمُقراطيّ مؤتمر الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته

أَهميّةُ السُّلطةِ القَضَائيّةِ في بِناءِ نِظَامٍ دِيمُقراطيّ مؤتمر الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته

سأتعرضُ هنا للسلطةِ القضائية، ولكن ليس باستقلالٍ عن مقوماتِ فعاليتها والشروطِ الضروريةِ لنجاعة دورها، من وجودِ قانونٍ نافذ؛ أيْ حكمُ القانون، وشروطِ تعيينِ المدّعي العام، ومَنْ في مكتبه، وتأهيلِهِم. هذه رزمةٌ واحدةٌ لا يمكنُ أن تنفصلَ، وسأدرجُها هنا لغرضِ ملاحظاتي اليوم تحتَ عبارةِ السلطةِ القضائية.فلا يكفي وجودُ قضاءٍ مستقلٍ نزيه، على الرغمِ من الأهميةِ الفائقةِ لهذا، إذا كانت، على سبيل المثال، قراراتُ المحاكمِ لا تنفذُ كما هو الأمرُ في عددٍ من الحالات في فلسطين.

وسأبدأُ بمكانٍ آخرَ غيرَ فلسطين، لاستخلاصِ عبرةٍ أساسية. وسآخذُ مثالَ بلدٍ يُعتبر ديمقراطياً ومستقراً في نظامِهِ السياسي، لكنه يحتوي على شروخاتٍ وانشقاقاتٍ وانقساماتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ داخليةٍ عميقة. هذا المثالُ هو الولاياتُ المتحدة الأميركية، ولكنه ليس البلدَ الوحيدَ الذي يمكنُ الإشارةُ إليه. فمعظمُ الدولِ التي تعتبرُ دولاً ديمقراطية، والتي تتسمُ باستقرارِ النظامِ السياسي، توجدُ فيها انقساماتٌ وشروخاتٌ داخليةٌ قد تختلفُ من بلد إلى آخر.فبلجيكا مثلاً، فيها قوميتان، ولغتان، وتوترٌ دائمٌ حول قضايا متنوعة، لكن النظامَ السياسيَّ ا يزالُ متماسكاً. وهذا ينطبقُ على دولٍ أخرى عديدةٍ في الغربِ والشرق، وإن كان بدرجاتٍ متفاوتة. فسويسرا مثلاً، فيها ثلاثُ قومياتٍ أساسية، وأربعُ لغاتٍ رسمية، ونظامُها السياسيُّ أكثرُ استقراراً من بلجيكا وفرنسا وبريطانيا، أو الهند، على سبيل المثال لا الحصر. طبعاً، توجدُ أسبابٌ عدةٌ لاستقرارِ الأنظمةِ السياسيةِ، منها الشرعيةُ الداخليةُ للنظام بعناصرها المختلفة، وتاريخُ تطورها. لكني سأركزُ على جانبٍ واحدٍ هنا، ربما هو أهمها، على الأقل في الحالةِ الفلسطينيةِ كما سأبيّن.

أعودُ إلى الولايات المتحدة. تستفحلُ في الولايات المتحدة الآن الانقساماتُ المجتمعيةُ، مضافاً إليها الانقساماتُ السياسيةُ التي تتداخلُ معها في معظمِ الأحيان، إلى درجةٍ غير مسبوقة خلالَ عقودٍ خلت، وبخاصةٍ في حقبةِ الرئيس ِترَمب، أو إن حقبةَ ترَمب دفعتْها إلى صدارةِ الواجهةِ بسببِ استثمارِها من قبله. وفي استطلاعِ رأيٍّ تمَّ في العام 2018، أقرَّ 80% من المستطلعينَ بوجودِ هذه الانقساماتِ العميقةِ التي تعبرُ عن نفسها سياسياً؛ إما بتأييدِ الجمهوريين، وإما الديمقراطيين. لكنهم منقسمون أساساً حول مجموعةٍ من القضايا ليست، في معظمها، سياسيةً بالمعنى الضيقِ للكلمة، منها النظرة إلى العرق، والمهاجرون، والحقُ في الإجهاض أو عدمِه، ومتى يصبحُ الجنينُ إنساناً وتحلُّ فيه الروح، وما إذا كانت للجنينِ روحٌ أصلاً، وما إذا كان الاحتباسُ الحراريُّ حقيقةً أو وهماً يروّجه البعض، وما إذا كانت وسائلُ الإعلامِ الرئيسيةُ موضعَ ثقةٍ أم تروج أخباراً كاذبةً كما يدّعي ترَمب. وتضاف إلى هذا انقساماتٌ حول الحق في حملِ السلاحِ من عدمه، والمثليين، وترسباتِ الحربِ الأهليةِ التي انتهتْ العام 1865 بين الشماليين والجنوبيين، والتوجهاتِ العامةِ لسكانِ الأريافِ المزارعينِ المحافظين، مقابلَ سكانِ المدنِ الحضريين. وهذه ليست قائمة نهائية! وقد قام ترَمب ببناءِ قاعدةٍ انتخابيةٍ على مجموعةٍ من هذه الانحيازيات، أو أن هذه القاعدة َالانتخابيةَ وجدت فيه تعبيراً عن آرائها وتظلماتها، بما في ذلك الاقتصاديةُ، فتبلورتْ هويتُها ككتلةٍ مجتمعيةٍ-سياسيةٍ بدرجةٍ أكبر مما كانتْ عليه سابقاً، وأوصلتْهُ إلى سُدةِ الحكم.

المهمُّ، هنا، هو أنه في حقبةِ هذا الرئيسِ الشعبويّ ِوالغوغائي ِوالمتقلبِ في مواقفه، تعمّقت هذه الشروخاتُ المجتمعيةُ والسياسيةُ إلى درجةٍ غيرِ مسبوقة، أو أنها ظهرت إلى السطح بقوة اندفاع لم توجد من قبل، وأصبحت تهددُ استقرارَ النظامِ السياسيِّ والسلمِ المجتمعي، وتنذرُ بانشقاقاتٍ وهُوَّاتٍ وانقساماتٍ سياسيةٍ ومجتمعيةٍ غيرِ قابلةٍ للردم، بما فيها من تبعاتٍ تهددُ النظامَ السياسيَّ ككل بالتفكك.

لكن، وهنا بيت القصيد، بقي النظامُ السياسيُّ متماسكا على الرَّغم من الضغوطاتِ الكبيرةِ التي تعرّضَ لها، بقي متماسكاً بفعل عواملَ عدة؛ أهمُّها وجودُ قانونٍ نافذ، وقضاءٍ مستقلٍ حكم مراتٍ عدة ضد قرارات الرئيس، الأمرُ الذي اضطر ترَمب إلى التراجعِ عن قراراتٍ عدة. هذا، إضافة إلى سلطةٍ تنفيذيةٍ لا تحجمُ عن تنفيذِ قراراتِ المحاكم. لولا هذا، لتفسخت الدولةُ، وربما عادت إلى نظامٍ كونفدراليٍّ  كما كانت قبل أن تتوحدَ في نظامٍ فيدراليِّ، أو أسوأَ، كما حصلَ في الأندلس بعد سقوطِ الدولةِ الأموية، وتحولُ الأندلس إلى اثنتين وعشرين دويلة، يحكمُها ما سُمِّي بملوك الطوائف. وتوجدُ سيناريوهاتٌ مثل هذا في إسرائيل، في حال تمَّ حلُّ السلطة، أو قامتْ إسرائيلُ بحلها، أي إقامةِ سلطاتٍ محليةٍ موسعة، ولكن دون سلطةٍ مركزيةٍ فلسطينيةٍ غيرَ الاحتلال.

طبعاً، الحالةُ الفلسطينيةُ حالةٌ خاصة، وسأعودُ إليها بعد قليل. لكن، في حالةِ الولاياتِ المتحدةِ وباقي الدولِ المستقرةِ التي لها سلطةٌ مركزيةٌ قادرةٌ على الحكم، من الجلي أنه توجدُ أسبابٌ عدة لديمومة تماسكِها، لكن أهمَّها وجودُ قانونٍ نافذٍ، وقضاءٍ مستقل، مؤهلٍ ونزيه، وسلطةٍ تنفذ قراراتِ المحاكم. دون ذلك، لا يمكنُ إبقاءُ الدولةِ، أو النظامِ السياسيِّ متماسكاً، وستنشأُ آلياتٌ محليةٌ للحكمِ وللتحكيمِ لإيفاءِ الحاجاتِ المجتمعية، كما هو الحالُ في الضفةِ الغربية من "ازدهارٍ" للمحاكمِ العشائرية، وغيابِ معيارٍ واحدٍ وموحدٍ للعدالةِ بين أبناءِ الشعبِ الواحد، وفي ظلِّ السلطةِ الفلسطينية.

ولعلَّ بعض استطلاعات الرأيِ التي قامَ بها ائتلافُ أَمان، تؤشرُ، بشكلٍ غيرِ مباشر، على ضعفِ المنظومةِ القضائية، بما في ذلك حكمُ القانون، على الأقل في رأي الجمهور. فعند السؤالِ في أحدِ الاستطلاعاتِ عن: ما هو نوعُ الفسادِ الأكثرِ انتشاراً في القطاعِ العامِّ في فلسطين؟ كانتْ الإجابةُ: الواسطة والمحسوبية. لكن ما هي الواسطةُ والمحسوبية؟ هي عدمُ الالتزامِ بالإجراءاتِ واللوائحِ والأنظمةِ الداخليةِ التي تضعُ القانونَ موضعَ التنفيذ، والتي تفترض ضمنا أو صراحة معاملة الجميع بنفس المعيار، كون ذلك أساسا رئيسيا للعدالة، بما في ذلك وجود معيارا علنيا للاستثناءات، إن وجدت. ووجود الواسطة والمحسوبية تعني أيضا عدم وجودِ محاسبةٍ أو عدمِ فاعليتها. بعبارةٍ أخرى، ضَعفُ أو انتفاءُ حكمِ القانون،  أو غيابُ وانتفاءُ المحاسبةِ من خلال القانون.

غير أن أبرزَ مظاهرِ عدمِ فاعليةِ المنظومةِ القضائيةِ بالمعنى الأوسع المشار إليه أعلاه، هو الانقسامُ بين غزةَ والضفة، أو بين فتح وحماس. ففي الدولِ المستقرةِ، تتم المنافسةُ بين الأحزابِ في الانتخابات، أو في أي سياقٍ آخر، ضمنَ الإطارِ القضائيِّ والقانونيِّ للدولة. فالدولةُ ومؤسساتُهُا تبقى مستقلةً عن هذهِ المنافسة، وعن أيِّ حزبٍ من الأحزاب. لكن في الحالةِ الفلسطينيةِ، بسببِ تماهي حزبٍ واحدٍ مع الدولة، إن جازَ التعبير، أصبحتْ الدولةُ طرفاً في المنافسة، وطرفاً في الانقسام. وقد لعبت بيروقراطيةُ الدولة؛ أي الوظيفةُ العموميةُ في الوزاراتِ والمكاتبِ الحكوميةِ المختلفة، دورَ المعارضةِ من داخلِ النظامِ بعد تشكيلِ أولِ حكومةٍ برئاسةِ إسماعيل هنية، بعد انتخاباتِ كانونِ الثاني/يناير 2006. ولم تكن الوظيفةُ العموميةُ، في غالبها، مستقلةً عن هذا الصراع، كما هو الحالُ في الدولِ المستقرة. وبانَ بوضوحٍ غيابُ القضاءِ المستقلِ، وحكمُ القانون.

وفي الفترةِ القصيرةِ التي حكمتْ فيها حماس، سعتْ إلى توظيفِ أكبرِ عددٍ ممكنٍ من الموالين لها في وظائفَ عمومية، متخذةً من فتح قدوةً لها في التوظيف. ولما تم النقدُ والهجومُ عليها بسبب ذلك، كان ردُّها أن في هذا ازدواجيةً مجحفةً وغيرَ منصفةٍ في المعايير. وما زال مطلبُها حتى الآن، بعد الانقسام، هو "المشاركة"، ومعنى هذا في قاموسِ منظمةِ التحريرِ الفلسطينية، هو "المحاصصة"، التي انتقلتْ الآن إلى مطلبٍ من داخل بنيةِ النظامِ السياسيِ الجديدِ في ظلِ السلطةِ الفلسطينيةِ بعد إنشائها. هذا على الرغم من الحديثِ المتكررِ عن بناء الدولةِ ومؤسساتها الذي ما زال معنا حتى الآن، وأحياناً في سياقاتٍ تثيرُ الاستغرابَ والاستعجاب، أو حتى ما هو أسوأ. فعندما تمَّ حلُّ المجلسِ التشريعيِ بقرارِ محكمةٍ مطعونٍ في صحته، قيل عندها، في نوع من الهذيان السياسي، إنَ حلَّ المجلسِ يشكلُ مرحلةً أساسيةً من مراحل الانتقالِ من السلطة إلى الدولة. هذا، بينما كان حلُّ الدولتين يحتضرُ أمام أعينِ الجميعِ إن لم يكن قد توفي أصلاً.

ما هي العبرةُ إذاً؟ إذا أردنا بناء نظامٍ سياسيٍ حديثٍ يعمل للصالح العام، وليس للصالح الخاص، وما دامت هناك سلطة سياسية فلسطينية قائمة بالفعل، وتمارس عملها، سواءٌ اتخذت شكلَ دولةٍ أو لم تتخذ، لابد من إصلاحِ المنظومةِ القانونيةِ كاملةً، وفصلِ الوظيفةِ العموميةِ في نطاقِ عملِها العام، عن الأحزابِ السياسيةِ ومصالحها الخاصة. دون ذلك، ستستمرُ الواسطةُ والمحسوبيةُ أساساً في التوظيف، وفي القرارِ الإداريِ، وحتى القانونيِّ، كما هو الحال الآن إلى حد بعيد. وسيتفتتُ النظامُ السياسيُّ أو بنية الدولة، ويتحول إلى مجموعات من الأفراد متحالفين حول مصالحَ محددةٍ، أو متنافسينَ حولها، كما هو الحال الآن، وستبقى نظرةُ المواطنين للسلطةِ السياسية، حتى لو تحولتْ إلى دولة، على أنها دولةُ المحاسيب، أسوةً بعددٍ من الدول العربية التي ثارَ شعبُها عليها لأنها فاقدةٌ للشرعيةِ الداخليةِ من منظورِ تلك الشعوب. وحسبُك بها صفقةً خاسرة.

 

بقلم: د. جورج جقمان
معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان
ودائرة الفلسفة والدراسات الثقافية
جامعة بيرزيت

 

**المقالات والآراء المنشورة تعبر عن رأي أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي أمان
go top