آراء حرة

الواسطة منشأ الفساد

الواسطة منشأ الفساد

لم تتخلص الدول المتحضرة من "الواسطة" بشكل كامل، ولكنها استطاعت أن تبني نُظماً إدارية سليمة، تكاد أن تكون خالية تماما من المحسوبيات والشللية، وتنعدم فيها إمكانية تشكّل مراكز للقوى، التي عادة ما تكون على حساب مفهوم المؤسسة، وخلَقت لدى شعوبها ثقافة الانتماء للوطن والولاء للعمل والمؤسسة، عبر منظومة أخلاقية وتربوية متكاملة، الأمر الذي مكّنها من النهوض والرقي وبناء مؤسسات الدولة العصرية التي تحترم الإنسان وتصون حقوقه، خلافا لما هو قائم لدينا في عالمنا العربي، حيث ما زالت المجتمعات العربية مأسورة بثقافة الانتماء للطائفة والولاء للعشيرة على حساب الانتماء الوطني، الأمر الذي شوّه مفهوم المواطنة وأفقده مضمونه الحضاري، وجعل العديد من مؤسسات المجتمع تغرق في مستنقع الواسطة والمحسوبية، حتى أصبحت الواسطة بمثابة ثقافة شعبية لا تجد من ينكرها أو يستنكرها، بل تجد في المقابل من يتباهى في كل مجلس بأن المسؤول الفلاني تربطه به علاقة قرابة، وقد أثمرت هذه العلاقة عن توظيفه هو والعديد من أقاربه، وآخر يتفاخر بأن الوزير الفلاني أخرجه من قضية ضُبط فيها متلبسا، ولولا وساطته لكان الآن في السجن !! وقد تجاوبت الأمثال الشعبية مع هذه الثقافة السلبية، إذ يقول المثل الشعبي: "إللي ماله كبير يدوِّر على كبير"، وأصبح من عادة المواطن أن يحتفظ في محفظته ببطاقات كبار المسؤولين أصحاب السطوة والنفوذ، ممن هم سنده وظهره.

فإذا كانت الواسطة موجودة في الدول المتقدمة كما أسلفنا، إلا أنها تمارَس على نطاق ضيق وعلى شكل توصية تُعطى لمن لديهم كفاءة واستحقاق ولكنهم يفتقرون للعلاقات وبحاجة إلى بعض الدعم، بينما في المجتمعات المتخلفة تأخذ الواسطة منحى مختلف كليا، إذ أصبحت الواسطة والمحسوبية مفهوم رائج وأسلوب حياة خاصة لمن يبحثون عن الحلول السهلة والسريعة، حيث تصبح معرفة المسؤول كما لو أنها حق مكتسب يتوجب على أي شخص من خلال هذه المعرفة أو القرابة أن يأخذ ما يريد حتى لو كان ذلك ليس من حقه، ثم أصبحت تمارَس لاغتصاب حق الآخرين، أو تجاوز القانون، فالواسطة لن تتوقف عند وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، بل ويتم توظيفها في قلب الباطل إلى حق، أو في تقويض ركائز القضاء المدني، أو الدفاع عن الفاسدين والمجرمين، الأمر الذي يعطل البناء ويقتل أي أمل في التقدم.

ولكن هذا لا يعني أن كل مساعدة يقدمها مسؤول ما لأحد معارفه لينال حق من حقوقه هو شكل من الفساد واستغلال للمنصب، فأحيانا يكون هذا الشخص يتمتع بالكفاءة المطلوبة وتتوفر فيه المواصفات المطلوبة ولكنه عاجز لسبب أو لآخر عن الحصول على حقه، ولكن مع ذلك يجب أن لا تكون هذه المساعدة على حساب مفهوم تكافؤ الفرص، وهذا للأسف نادرا ما يحصل في مجتمعاتنا العربية.

ومفهوم الواسطة رائج أكثر في البلدان التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، حيث ثمة علاقة طردية بين الاستبداد وبين شيوع الفساد بكافة صوره وأشكاله، فالاستبداد - وهو منتج طبيعي للفكر والقيم السائدة في الأنظمة الثيوقراطية والأوتوقراطية - تبدأ بذرته صغيرة ثم ما تلبث أن تتحول إلى منظومة كاملة تشرّعه فكرا ً وممارسة وعقيدة، وهو إن تجلى بأوضح صوره بتسلط رأس الدولة وحاكمها، إلا أنه سرعان ما يمتد ويتغلغل في داخل نسيج المجتمع حتى يصل إلى داخل سلوكيات المواطن البسيط، ليُمارس كل فرد استبداده على من هو تحت سلطته، فيصبح الاستبداد هنا منهج حياة لا يثير حفيظة أحد، ولعل هذا يفسر سبب خضوع المجتمعات العربية تحت حكم أنظمة شمولية قهرية على مدى قرون متواصلة بصبر وتحمل يحسدهم عليهما باقي الشعوب.

ومع انتشار الاستبداد في كافة مرافق الدولة والمجتمع، فإن الظروف تتهيأ لتفشي الفساد، فينمو الاستبداد والفساد جنبا إلى جنب ضمن علاقة تبادلية تفرضها ضرورات التعايش والاستمرار وتحقيق المنفعة منهما، وحتى تتمكن الطبقة المسيطرة من استغلال المجتمع وتحقيق مصالحها الذاتية، لا بد من مشاركة النخب الاقتصادية والأمنية والطفيلية في عمليات النهب، لكي تتعاضد أركان النظام الفاسد وتصبح قيمه منهج وسلوك يمتد ليخلق الرشوة.

وهكذا مع وجود الاستبداد وشيوع الفساد كمنظومة متكاملة، تنشأ مراكز القوى والتي تتمحور حول من يمتلك النفوذ والمال والسلطة، والناتج الحتمي لهذا التحول هو نشوء ثقافة المحسوبيات والواسطة كتعبير وتجسيد لهيمنة الفئات المُستبدة والفاسدة على كل مرافق المجتمع والدولة، ومن أجل ديمومة سيطرة هذه الفئات واستمرار انتفاعها.

مفهوم المحسوبية والواسطة بقدر ما هي مولود طبيعي ونتاج حتمي لمنظومة الفساد، إلا أنه يستمد قيمه ومشروعيته من خلال تراث ممتد من القيم البالية التي هيمنت على ثقافة المجتمع لقرون طويلة، وللأسف كانت هذه القيم وما زالت تستمد قوتها من فهم مغلوط للدين، ومن ممارسة غير صحيحة لقيم دينية تم تحويرها وتشويهها على يد الكهنة ورجال الدين، وهؤلاء تمكنوا من ترسيخ مفهوم الواسطة كقرين لمفهوم الشفاعة  وجعلوا لها حضور في أعماق العقل الديني ليسهل عليهم منح الشرعية للمُستبدين ومراكز القوى، من خلال إسقاط هذه المفاهيم على الدين نفسه، وبذلك تمكنوا بسهولة من تأسيس مجتمع تسوده الواسطة والمحسوبية، وهذه الممارسة لم تكن من باب الترف الفكري، بل كانت ضرورة اقتضتها المصلحة المادية، فأي فكرة في الوجود لا بد أن تأتي لتلبية حاجة ورغبة أو لتحقيق مصلحة، ولا توجد فكرة معلقة في الفضاء بدون جذور في الأرض، وحتى لو غُلّفت الفكرة ً بالمقدس فذلك لا يعني أنه ليس لها حاجة وغاية وهدف مادي

**المقالات والآراء المنشورة تعبر عن رأي أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي أمان
go top