آراء حرة

السلطة القضائية في فلسطين ( النشأة والتطور والتحديات)

السلطة القضائية في فلسطين ( النشأة والتطور والتحديات)

عندما استلمت منظمة التحرير الفلسطينية زمام الأمور فيما سمي الأراضي الفلسطينية، وأنشأت السلطة الوطنية عام 1994، واجهت وضعاً كئيباً لمرفق العدالة: بنية تحتية من أبنية وأجهزة يرثى لها؛ عدد غير كاف من محاكم وقضاة وأعضاء نيابة عامة وكتبة؛ ولاية منقوصة للمحاكم في القضايا الجزائية والعقارية والإدارية بسبب الاحتلال الإسرائيلي؛ غياب الإطار القانوني المناسب في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، غياب مجلس قضاء أعلى؛ إضراب أكثرية المحامين في الضفة الغربية؛ خريجون من كليات حقوق غير فلسطينية وغياب أي تدريب لمعظمهم قبل عودتهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة... وأمام هذا الوضع الهش لمرفق العدالة، لم تكن القيادة الفلسطينية مهيئة لإعادة بنائه بشكل شمولي ومخطط، أولاً لأنه كانت تعتقد بأن لها أوليات أخرى، وثانياً، لأنها كانت تفتقر إلى حس قانوني أو إلى عقلية قانونية. فهذه القيادة كانت قد تشكلت ونمت مدة أربعة عقود عبر الثورة ومقاومة قانون الاحتلال وحتى قانون الدول العربية المضيفة. وكان من نتيجة ذلك، أن القيادة تعاملت مع بناء القضاء بسلسلة من التدابير المجزأة والعفوية وحتى المتناقضة.

يمكن تحديد أربعة محركات للخطوات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية في مجال القضاء في العقد الأول بعد أوسلو: المنافسة على الصلاحيات وعلى التعيينات بين قاضي القضاة (يسمى اليوم رئيس المحكمة العليا) ووزير العدل والنائب العام في أروقة الرئيس الراحل ياسر عرفات؛ المبادرات التشريعية النشطة للمجلس التشريعي؛ دور المنظمات الأهلية؛ ضغط الدول المانحة. على الرغم من تناقضاته، أدى هذا الحراك الرباعي إلى إنجازات  تشريعية لا بأس بها في السنوات 1999-2002: القانون الأساسي، قانون السلطة القضائية، قانون تشكيل المحاكم النظامية، قانون أصول المحاكمات المدنية، قانون أصول المحاكمات الجنائية، قانون تنظيم مهنة المحاماة. في الوقت نفسه، تم توسيع البنية التحتية وتقويتها، وهيكلة المحاكم من البداية إلى النقض مروراً بمحاكم الاستئناف، وتعيين العشرات من القضاة وأعضاء النيابة العامة، والبدء بوضع برامج تدريبية رسمية للقضاة وأعضاء النيابة العامة والمحامين انطلاقاً من مبادرات غير حكومية مثل مبادرات معهد الحقوق في جامعة بيرزيت، وإنشاء كليات حقوق في جامعة النجاح وجامعة القدس وجامعة الأزهر.

من الضروري عدم الاستهانة بهذه الإنجازات خلال أقل من عشر سنوات، فقد كانت هذه الإنجازات التي شكلت تأسيساً راسخاً لمرفق القضاء، تعبيراً عن حيوية المجتمع الفلسطيني وهيئاته المختلفة. ولكن على الرغم من هذا التأسيس العام، استمر التدخل الفعلي لأجهزة لسلطة في عمل المحاكم، وخصوصاً في تنفيذ الأحكام، المدنية منها والجزائية، وتبين أن مجلس القضاء المنشأ حديثاً تعوزه المأسسة، واستمر التنافس بين أطراف مرفق العدالة، وخصوصاً بين مجلس القضاء ووزارة العدل، حول من هو مسؤول عن (1) إدارة المهنة القضائية (من تعيين وترقية وإنابة ومساءلة)، وعن (2) إدارة المحاكم، وعن (3) إدارة الموارد المالية. وبرزت إذ ذاك، الحاجة إلى معالجة هذه الأمور، فتبلورت شيئاً فشيئاً فكرة إيجاد آلية لتصويب مرفق العدالة، وكان ذلك في الأشهر الأخيرة من سنة 2004 والأشهر الأولى من سنة 2005، أي قبيل وفاة الرئيس الراحل أبو عمار حتى استلام الرئيس أبو مازن زمام السلطة. ربما تذكرون أن هذه الآلية الإصلاحية تمثلت في مرسوم رئاسي قضى بإنشاء لجنة توجيهية لتطوير القضاء بعضوية ممثلين عن مجلس القضاء الأعلى، ووزير العدل، والنائب العام، ووزير الداخلية، ووزير المالية، ورئيس اللجنة القانونية في المجلس التشريعي، ونقيب المحامين، والمفوض العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ووزير التخطيط على أن يكون هذا الأخير منسق اللجنة. وكان لي شرف أن أكون أمين سر اللجنة.

هل نجحت اللجنة التي عملت من آذار إلى كانون الأول 2005 في مهامها؟ لم تنجح إلا جزئياً. لا مجال في هذه العجالة لتحديد أوجه نجاحها وفشلها، أو لتوضيح أسباب فشلها في حينه. في موضوع الإنجازات، أكتفي بالآتي: مسح الحاجات البشرية لمرفق العدالة؛ فكرة إنشاء جهاز إدارة المحاكم تحت سلطة مدير المحاكم؛ إنشاء الشرطة القضائية؛ إنشاء السجل العدلي؛ حث مجلس القضاء الأعلى على تبني عدد من القرارات التنظيمية من أجل مأسسة أعماله (تم نشرها في الجريدة الرسمية عام 2006). ولكن الفشل الرئيسي تمثل في عدم تبني المجلس التشريعي لمسودة القانون الجديد للسلطة القضائية التي صاغتها اللجنة بتوافق أعضائها. سأتطرق بعد قليل إلى بعض القضايا التي أعتقد أنه يمكن استخلاصها من تجربة اللجنة ومن تجارب مثيلاتها في السنوات اللاحقة.

ولكن قبل ذلك، من الضروري تشخيص الوضع الذي آل إليه مرفق العدالة اليوم:
- احتكار مجلس القضاء الأعلى، من وجهة نظر مؤسساتية، للمجالات الثلاثة التي ذكرتها: أي إدارة المهنة القضائية وإدارة المحاكم وإدارة الموارد المالية؛
- تحول مجلس القضاء الأعلى إلى مركز نفوذ كسائر مراكز النفوذ،
- انحسار الدور المؤسساتي لوزارة العدل في هذه القضايا الثلاث وحتى تجاه النيابة العامة؛
- ضعف ما يمكن أن يردع التدخل الفعلي في قرار المحكمة، إن من قبل أصحاب النفوذ أو من الأجهزة، أو حتى من قضاة أعلى رتبة، وذلك في ظل غياب المجلس التشريعي وفي ظل سيطرة الحزب الواحد في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.

إزاء هذا الوضع، ما هي الأسس التي أرى أنه من الضروري تأمينها لتصويب مرفق القضاء؟

الناحية المفاهيمية

لقد تجنبت منذ البداية استعمال تعبير السلطة القضائية بسبب ما يحمل هذا التعبير من التباس في المعنى لدى الأوساط المعنية بالأمر في هذا البلد. خذ مثلاً تقرير اللجنة الوطنية لتطوير قطاع العدالة بتاريخ أيلول 2018. فالتقرير يعتبر أن استقلال القضاء ذو شقين: استقلال السلطة القضائية باعتبارها السلطة الثالثة في الدولة تقف على قدم المساواة مع السلطات الأخرى؛ واستقلال القاضي. كلا، يا إخوان. إن المعنى الأصيل للسلطة القضائية هو الشق الثاني، أي سلطة القاضي في حكمه القضائي، أو سلطة الهيئة المكونة للمحكمة في حكمها. إن القاضي المنفرد في محكمة الصلح هو السلطة القضائية، فله أن يتخذ قراره بشكل مستقل، وعلى الجميع تنفيذ الحكم الذي يصدره أو تسهيل تنفيذه. أما الصلاحيات التي تمنح لمجلس القضاء الأعلى، فهي ليست جزءاً من صميم السلطة القضائية، إنما القانون يمنحه إياها لكي يوفر للقاضي الشروط التي تحميه من أي تدخل في حكمه ولكي يتأكد من فعالية القاضي ونزاهته.

من جهة أخرى، يمكن للقانون أن يمنح السلطة التنفيذية عدداً من الصلاحيات في مرفق العدالة. فالقضاء هو مرفق عام، وكحالة أي مرفق عام، يتوجب على السلطة التنفيذية توفير ما يسمح للمواطن بالوصول إليه، أي بالوصول إلى القاضي (access to justice). وبهذا الصدد، أعتقد أن تقرير اللجنة الوطنية لتطوير القضاء في أيلول 2018 يشير بشكل مقنع إلى مسؤوليات وزارة العدل. ولكن ماذا عن إدارة المهنة القضائية؟ لمن يجب أن تتبع؟

إدارة المهنة القضائية

(بالمناسبة، لم يعد من الضروري إثارة موضوع إدارة المحاكم، على افتراض أن وزارة العدل راضية عن تبعية هذه الإدارة لمجلس القضاء الأعلى من خلال مدير المحاكم.)

يشتمل موضوع إدارة المهنة القضائية، كما أسلفنا، على قضايا مثل تعيين القضاة وتقييمهم وترقيتهم وندبهم وإعارتهم وتأديبهم. لا شك عندي أنه يجب منح  مجلس القضاء الأعلى دوراً رئيسياً في هذا المجال، لأن تدخل السلطة التنفيذية في هذه الأمور قد يحد من استقلال القضاة في عملهم القضائي. بطبيعة الحال، يتطلب اضطلاع مجلس القضاء بمسؤولية إدارة المهنة أن يضع معايير موضوعية بخصوصها وأن يلتزم بها عملياً عند تقييم أو ترقية أو تأديب أحد القضاة. وهنا بالذات لا بد أن نطرح السؤال المعروف: ما الذي يضمن ممارسة مجلس القضاء الموضوعية في مثل هذه القرارات؟ ما الذي يضمن عدم المحسوبية أو الموقف الانتقامي تجاه هذا القاضي أو ذاك؟ يثير هذا التساؤل موضوع تركيبة مجلس القضاء نفسه.

تركيبة مجلس القضاء

إذا كان من الضروري توفير شروط استقلال القاضي وفعاليته ونزاهته، من الضروري أيضاً التأكد من شفافية وموضوعية أعمال مجلس القضاء. يسرني في هذا المضمار انتشار القناعة بأنه بجب توسيع عضوية المجلس بحيث يضم شخصيات خارج السلك القضائي. فكانت هذه الفكرة مستهجنة سنة 2005 عندما اقترحتها اللجنة التوجيهية على ممثلي مجلس القضاء ضمن التبرير التالي: لا مفر من أحد الخيارين: إما منح دور ملموس لوزارة العدل في إدارة المهنة القضائية، وإما توسيع مجلس القضاء الأعلى. وفي الحقيقة، لا يهدف هذا الاقتراح إلى ضمان الشفافية والموضوعية لقرارات المجلس فحسب، إنما أيضاً يهدف إلى حماية القضاة أعضاء المجلس من تدخلات أصحاب النفوذ. أضف إلى ذلك أن مجرد توسيع المجلس من 9 إلى 15 عضو مثلاً يساهم في مأسسة المجلس ويشجعه على تبني آليات رسمية لكافة مراحل جلساته، مثل وضع جدول أعمال، والتصويت، واتخاذ القرارات، وكتابة المحاضر، وإعلان القرارات أمام الجمهور، ومتابعة تنفيذها.

آلية الإصلاح

منذ سنة 2005، وأنا أتابع فكرة إنشاء مجلس قضائي موقت، أو ما سمي، في السنة الماضية، لجنة موقتة للتقييم القضائي، وذلك في تقرير اللجنة الوطنية لتطوير قطاع العدالة الذي ذكرته سابقاً وفي تقرير الإئتلاف الأهلي لاستقلال القضاء وحمايته. عليّ بكل صراحة أن أعبر عن عدم اقتناعي بهذه الآلية، لأن عملية تشكليها بالذات قد تخلق صراعات وتدخلات لضم هذه الشخصية أو ذاك. وبعد تشكيلها، قد تبدأ الضغوط على أعضاء اللجنة لاستبعاد هذا القاضي أو ذاك، أو للإبقاء على هذا القاضي أو ذاك في السلك القضائي. إذا كنا مقتنعون بتوسيع عضوية مجلس القضاء، فهذه تشكل آلية مناسبة دائمة، ويكفي لاعتمادها تعديل قانون السلطة القضائية بمادة أو مادتين.
   

خاتمة

ثمة قضايا عديدة لم أستطع التطرق إليها في حدود ال 12 دقيقة التي قررها منظمو هذا اللقاء. وأود أن أختتم مداخلتي بالنقاط التالية:

- لا أمل بإصلاح القضاء بشكل جذري إذا لم يكن لدينا نظام سياسي ديموقراطي تعددي ومجلس تشريعي فعال تمثل فيه القوى السياسية كافة. وهذا ما نفتقده منذ سنة 2007. هل هذا يعني أن لا مجال لأي محاولة قبل استعادة التعددية في النظام السياسي الفلسطيني؟

- بطبيعة الحال، كلا. إلى جانب الإصلاحات التفصيلية التي يمكن أن تقر في هذا المجال أو ذاك، من الضروري الاستمرار في فعاليات مثل التي تجمعنا اليوم، وتعميمها. وقد اقترحت على بعض الإخوة في "أمان" عقد مؤتمر في كل محافظة من محافظات الضفة وغزة (إن أمكن) من خلال الاتصال بكل مَن يهتم بالشأن القضائي في المحافظة. ومن السهل تصور جدية هذا الجهد إن تم تنظيم بين 7 و10 مؤتمرات محلية، يتبعها عقد مؤتمر وطني يشارك فيه من يستطيع ممن شاركوا في المؤتمرات المحلية. من المهم تشكيل رأي عام منطلق من القاعدة، لأن رام الله لا تختزل الضفة وغزة، ونخبة رام الله لا تختزل رأياً عاماً فلسطينياً فاعلاً وذا تأثير.

- من جهة أخرى، من المناسب، تشجيع الصحافة ووسائل الإعلام المرئية ووسائل التواصل الاجتماعي على متابعة الشأن القضائي. وقد يتطلب ذلك تدريب عددٍ من الصحافيين حتى يتمكنوا من متابعة عمل مجلس القضاء الأعلى والمحاكم والنيابة العامة وكتابة تقارير استقصائية لنشرها في الإعلام. هذا مثال، لا أكثر، للخطوات التي يمكن اعتمادها لخلق حالة شعبية ضاغطة. 

كلمة أخيرة؛ إن النضال من أجل إصلاح القضاء هو نضال من أجل نظام سياسي تعددي. والعكس صحيح: النضال من أحل نظام سياسي تعددي هو نضال من أجل إصلاح القضاء.

 

بقلم: الدكتور كميل منصور

كميل منصور أمين سر مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية حالياً، وعضو مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية. عمل أستاذاً للعلاقات الدولية في جامعة باريس من سنة 1984 حتى سنة 2004. أسس وترأس معهد الحقوق في جامعة بيرزيت (1994 ـ 2000)، وفي إطاره أشرف على إنشاء "المقتفي"، منظومة القضاء والتشريع في فلسطين، وهو قاعدة مؤتمتة للتشريعات والقرارات القضائية الفلسطينية. عمل مستشاراً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لتطوير القضاء الفلسطيني (2004 ـ 2006). وشغل منصب عميد كلية الحقوق والإدارة العامة في جامعة بيرزيت (2007 ـ 2009).

 

**المقالات والآراء المنشورة تعبر عن رأي أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي أمان
go top