آراء حرة

هيئة مكافحة الفساد.. اختصاصات محددة وصلاحيات واسعة

هيئة مكافحة الفساد.. اختصاصات محددة وصلاحيات واسعة


 
  

لا شك أن تبديل قانون الكسب غير المشروع بقانون مكافحة الفساد، وبدء إجراءات تشكيل هيئة مكافحة الفساد تعتبر من أهم انجازات السلطة الوطنية الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص انجازات الرئيس محمود عباس فيما يتعلق في البناء المؤسسي حيث لم يجري على أرض الواقع بناء مؤسسات جديدة منذ سنوات عديدة، وإن تم مؤخراً تفعيل بعض المؤسسات القائمة بصورة أفضل مما كانت عليه في السابق.

ويكتسب تشكيل هيئة مكافحة الفساد أهمية خاصة نظراً لطبيعة الإختصاص المحدد بها، والذي من شأن تفعيله على أرض الواقع تبديد انطباعات ذهنية تكلست خلال السنوات الماضية في عقول المواطنين ، وذلك من خلال الإجراءات التي يتوقع ان تقوم بها الهيئة ضمن الاختصاصات والصلاحيات المناطة بها في مكافحة الفساد، والتي تعطشت عيون وقلوب المواطنين لمشاهدة اليوم الذي سيتم فيه محاربة الفاسدين خاصة أن كل الأدوات التي استخدمت في ملاحقة الفاسدين لم تثبت فيما مضى فاعليتها وكأن محاربة الفساد تتم بالتوعية وليس بالملاحقة والمحاسبة.

إن مفهوم الفساد قد تم تحديده في قانون محاربة الفساد بشكل واضح ومحدد، فهو يشمل الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة العامة والجرائم المخلة بالثقة العامة المنصوص عليها في قانون العقوبات السارية، والجرائم الناتجة عن غسل الأموال، وكل فعل يؤدي إلى المساس بالأموال العامة، وإساءة استعمال السلطة خلافاً للقانون، وقبول الواسطة والمحسوبية التي تلغي حقاً وتحق باطلاً، والكسب غير المشروع، بل أضيف الى مفهوم الفساد جميع الأفعال الواردة في الاتفاقيات الدولية أو العربية لمكافحة الفساد التي صادقت عليها السلطة الوطنية أو انضمت إليها.

كما أن القانون حدد بوضوح من هم الأشخاص أو الجهات التي يخضعون له، وكان في قمة الجرأة حين حدد أن أول من يخضع لهذا القانون هو رئيس السلطة الوطنية ومستشاروه ورؤساء المؤسسات التابعة للرئاسة، ورئيس وأعضاء مجلس الوزراء ومن في حكمهم، ثم أعضاء السلطة القضائية والنيابة العامة وموظفوها، والمحافظون ورؤساء وأعضاء مجالس الهيئات المحلية والعاملون فيها، والموظفون المعينون بقرار من جهة مختصة لشغل وظيفة مدرجة في نظام تشكيلات الوظائف المدنية أو العسكرية على موازنة إحدى الدوائر الحكومية أياً كانت طبيعة تلك الوظيفة أو مسماها.

كما شمل القانون رؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات المساهمة العامة والعاملون فيها، والتي تكون السلطة الوطنية أو أي من مؤسساتها مساهماً فيها، ومأمورو التحصيل ومندوبوهم والأمناء على الودائع والمصارف، المحكمون والخبراء والحراس القضائيين ووكلاء الدائنين والمصنفين.

وشمل القانون رؤساء وأعضاء مجالس إدارة الهيئات والمؤسسات العامة والجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية التي تتمتع بالشخصية الإعتبارية المستقلة والأحزاب والنقابات ومن في حكمهم ولو لم تكن تتلقى دعماً من الموازنة العامة، والأشخاص المكلفين بخدمة العامة بالنسبة للعمل الذي يتم تكليفهم به، وأي شخص غير فلسطيني يشغل منصباً في أي من مؤسسات السلطة الوطنية، التشريعية، التنفيذية، والقضائية، وأي شخص يمارس وظيفة عمومية لصالح أي جهاز عمومي أو منشأة عمومية أو منظمة أهلية تابعة لبلد أجنبي أو مؤسسة دولية عمومية، وحدد القانون شمولية أي شخص آخر أو جهات أخرى يقرر مجلس الوزراء إخضاعهم لأحكام هذا القانون.

القانون ورغم الفئات الواسعة التي حددها استثنى أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رغم شموله للرئيس بصفته رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، وليس رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورغم أن هناك مؤسسات تعمل باسم منظمة التحرير في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية وتتقاضى موارد مالية من الخزينة أو تتلقى مساعدات مالية مباشرة من مانحين ومتبرعين. كما لم يحدد القانون بشكل واضح فئة السفراء والعاملين في السفارات الفلسطينية رغم إتباع القانون لمنهج التفصيل والتحديد، علماُ بأن هذه الفئة يمكن تصنيفها ضمن فئة الموظفين وبالتالي تخضع لسلطة القانون، كما أن القانون لم يحدد بوضوح إن كانت كلمة منشأة عمومية أو مؤسسة دولية عمومية تشمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وتشمل ما يعرف باسم المشاريع الأجنبية في أراضي السلطة الوطنية حيث أن بعضها يعمل في أراضي السلطة الوطنية دون ترخيص أو تسجيل لمؤسساتهم مستندين في بعض الأحيان على تفاهمات مع بعض الجهات الرسمية دون إعلان لطبيعة هذه الضوابط أو التفاهمات علماً بأن عملهم يتم في مناطق حساسة ترتبط بدرجة عالية في مصالح وحقوق المواطنين، وتصرف هذه المشاريع مئات ملايين الدولارات في برامج عملها، وتصنف أموالها المنفقة كأموال دعم للشعب الفلسطيني.

إن أهمية القانون تكمن في أنه أعطى وللمرة الأولى جهة فلسطينية صلاحية ملاحقة ومحاسبة الفاسدين من السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، حيث لم يعد موضوع الفساد يخص جهة بعينها دون أخرى، فقد منح القانون جهة من خارج السلطة القضائية صلاحية تقدير وجود شبهات فساد بين أعضاء السلطة القضائية والنيابة العامة قبل أن تحال القضية إلى مجلس القضاء الأعلى لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة وفقاً للقانون،  كما أن الأحزاب السياسية مستهدفة للمرة الأولى كون أن القانون استهدفها بالرقابة والملاحقة في موضوع الفساد، كذلك شمل القانون النقابات والمؤسسات التي تصنف بحكمها وأعتقد من وجهة نظري أن هذا يعني الإتحادات الشعبية والأطر الجماهيرية التي لم تكن من قبل تخضع في إدارتها لموازناتها إلى أي رقابة قانونية.

إن وجود هذا القانون، ورغم الملاحظات الاستفهامية التي أبديتها على اختصاصاته، أصبح يشكل قوة رادعة في محاربة الفساد، منذ بدء خطوات  تشكيل الهيئة،  فاختيار رئيساً للهيئة بمواصفات رئيسها الحالي، المشهود له بالنزاهة والكفاءة والجرأة،  أعطى رسائل مطمئنة للمجتمع بأن هذه الهيئة ستكون جادة وفاعلة في تطبيق الصلاحيات التي نص عليها القانون في محاربة الفساد. ومع ذلك هنالك من يرى أن القانون ترك رئيس الهيئة يواجه بمفرده أشد المواضيع خطورة ألا وهو موضوع الفساد حين غفل القانون عن تشكيل هيئة الى جانب رئيسها، ومنح مقابل ذلك رئيس الهيئة صلاحية تشكيل مجلس استشارياً من الشخصيات المشهود لها بالخبرة والكفاءة للإستئناس برأيه دون منح هذا المجلس حق المشاركة في إتخاذ القرار.

وجهة النظر الأخرى ترى بأن هيئة مكافحة الفساد اتخذت في بنيتها نموذج النيابة العامة لتشابه مهام وآليات العمل بينهما، فجهاز النيابة العامة يخضع بمجمله لسلطة النائب العام  ويساعده في ذلك طاقم إداري كامل، وهذا نموذج يختلف عن نموذج مجلس القضاء الأعلى الذي يقوم على وجود مجلس مكون من تسعة أشخاص من بينهم رئيس المجلس يتولون مهمة رسم السياسة العامة للسلطة القضائية.

 

وجهتا النظر السابقتان كانتا يجب أن تخضعا للتقيم وفرضية الأصح،  وقد تكون خضعتا فعلاً لذلك، فأيهما أكثر قوة للهيئة أن تدار من قبل الرئيس وحده أم أن تدار من قبل الرئيس ومجلس يشاركه اتخاذ القرار، الإفتراض النظري الأول يقول بأن وجود أعضاء إلى جانب رئيس الهيئة سيزيد من قوته في مواجهة أي ضغوط قد يتعرض لها عند مباشرته في متابعة ملفات الفساد، فالمنطق المتوقع أن يواجه أي شخص في مثل هذا الموقع ضغوطاً كبيرة عند مباشرته للعمل بصورة فعلية، ووجود أشخاص في موقع صنع القرار الى جانبه يصلب مواقفه في مواجهة هذه الضغوط.

الإفتراض الثاني معاكس للإفتراض الأول ومبني على اعتقاد أن وجود هيئة في موقع اتخاذ القرار الى جانب الرئيس قد تزيد من فرص تعرض الهيئة للضغوط، فتعدد الأعضاء مقرون بتعدد المصالح، وتعدد المصالح يزيد من فرص الضغوط لا يقللها، وهذا كله سينعكس سلباً على عمل الهيئة.

من جانبي وكشخص مؤمن نظرياً بضرورة العمل الجماعي والمشاركة في اتخاذ القرار، أدرك فعلياً وبحكم الملاحظة والمشاهدة أن الهيئات الجماعية في المجتمع الفلسطيني ليست فاعلة ولم تؤدي الرسالة التي أنيطت بها نظرياً، سواء كانت هذه الهيئات جزء من النظام السياسي الرسمي أو الأحزاب السياسية أو حتى مؤسسات المجتمع المدني، وأن الأمور تسير في كل المؤسسات الفلسطينية من قبل رأس الهرم في المؤسسة، فلم أسمع في حياتي مرة واحدة أن رئيس الوزراء لم ينجح في تمرير قراراً نتيجة معارضة الوزراء وتصويتهم على القرار، والأمر ينطبق ذاته على باقي المجالس واللجان والمؤسسات ومن ضمنها المؤسسات الأهلية فمجالس الأمناء هي الهيئات الأكثر غياباً عن عمل المؤسسات ودورها لا يتعدى دور المصادقة على التقارير المالية والإدارية وتأييد سياسات مدراء هذه المؤسسات، لذا لا ضير ما دامت ثقافتنا السياسية تسير بهذا الإتجاه أن نجرب المسار الحالي كون أننا بحاجة الى فاعلية الهيئة في محاربة الفساد أكثر من حاجتنا إلى تعزيز مبدأ المشاركة في اتخاذ القرار، فمهمة الهيئة هي تطبيق القانون وليس رسم سياسات عامة، وأعتقد أن تسلح رئيس الهيئة بمجلس استشاري، إلى جانب مجلس تنفيذي من الإداريين الذين يعملون تحت إشرافه المباشر سيجعل هذه الهيئة اكثر فاعلية وقوة، ويجسد فيها روح العمل الجماعي، وفشل هذا الافتراض بالتجربة لا يمنع أن يتم تعديل القانون وفق الافتراض الثاني آجلاً أم عاجلاً.

النقطة الأخرى التي أود الإشارة إليها في هذا السياق هي أن القانون نص على تشكيل هيئة  محكمة مختصة بالنظر في قضايا جرائم الفساد يجري تشكيلها بقرار من مجلس القضاء الأعلى بناء على طلب رئيس الهيئة، وتنعقد بدرجة قاضي رئيس محكمة بداية وعضوية قاضيين لا تقل درجتهم عن قضاة محكمة بداية، وحدد لهذه المحكمة بعض الإجراءات الإضافية المتعلقة بمدد انعقاد الجلسات وأحكامها، وكل ما ذكر في هذا الجانب وما تلاه من انتداب أعضاء نيابة وصلاحيات منحت لهم، إضافة إلى منح بعض موظفي الهيئة صفة الضابطة القضائية لا يرتقي إلى مستوى الحديث عن تشكيل نظام قضائي خاص بقضايا الفساد يتمتع بصلاحيات وقدرات تفوق ما لدى القضاء العادي، كون أن قانون هيئة مكافحة الفساد أبقى الكرة في النهاية في ملعب القضاء العالي،  وبقيت صلاحية تشكيل محكمة مكافحة الفساد أو تغير بعض أو كل أعضاءها بيد القضاء العادي، وبقي قضاة المحكمة مربوطين بنظام السلطة القضائية المعمول به من حيث التشكيلات القضائية والتفتيش والترقية، وبالتالي فإن أقدامهم ستكون مزروعة في الهيئة، وعيونهم ستبقى معلقة في النظام القضائي العادي من حيث مستقبلهم الوظيفي وترقياتهم، ما لم يتم حل هذه المعضلة وربطهم بنظام مالي وإداري يتبع للهيئة، ويؤمن لهم كرامتهم ومستقبلهم الوظيفي.

  كما أن قرارات المحكمة ليست قطعية ومن درجة واحدة، وقراراتها قابلة للاستئناف وفقاً لطرق الطعن المحددة في قانون الإجراءات الجزائية، وبالتالي فكل القضايا التي ستنظرها محكمة مكافحة قضايا الفساد ستعود إلى حضن محكمة الاستئناف في القضاء العادي والمحاكم الأعلى درجة خاصة محكمة النقض، وبذلك يبقى القضاء العادي وضمن نظامه المعمول به هو صاحب الصلاحية بإصدار كل الأحكام القطعية في قضايا الفساد، وهذا يثير سؤال ما هي فلسفة تشكيل محكمة مختصة بقضايا الفساد؟. ولماذا لا يتم الإعتماد على النظام القضائي وفقاً لأنظمته المعمول بها للنظر في قضايا الفساد مع الإبقاء على الإجراءات التي نص عليها قانون هيئة مكافحة الفساد لتسريع إجراءات المحاكمة؟. وإن كان النظام القضائي لا يؤدي الغرض في هذا الجانب نظراً لخصوصية هذه القضايا، وهناك حاجة لتشكيل محكمة مختصة في معالجة قضايا الفساد لماذا لا يتم الحديث عن نظام قضائي مستقل خاصة فيما يتعلق بمستقبل القضاة المهني وترقياتهم وفيما يتعلق بدرجة التقاضي الثانية وإصدار الحكم القطعي.

في كل الأحوال لا بد أن يكون لمجلس القضاء الأعلى رأيه في هذه القضية، ولا بد أن يكون قد قدم رأيه في الشق المتعلق بالعمل القضائي في هذا القانون، فالقانون الفلسطيني يلزم المشرع بأخذ رأي مجلس القضاء الأعلى في أي تشريع يتعلق بالقضاء، وهذا القانون ذو علاقة واضحة، وللقضاء تجربة بدأت تتجسد خلال العامين الماضيين في الفصل بقضايا الفساد حيث أصدرت المحاكم عدد من الأحكام التي أدانت أو برأت من وجهت لهم تهمة الفساد، ولا بد أن يكون المجلس قد قيم هذه التجربة وأخذها بعين الإعتبار في رأيه المتعلق بالشق القضائي في قانون مكافحة الفساد.

إن الحديث عن هيئة مكافحة فساد فاعلة ومستقلة منوط ببيئة العمل المحيطة بها، وبحجم الدعم الذي تتلقاه من السلطات الثلاث، وبالإرادة السياسية الداعمة لها، وفي مقدمة ذلك منحها موازنة مستقلة ومحددة برقم واحد يوضع تحت تصرفها، فمن غير المعقول أن تكون هذه الهيئة قادرة على القيام بواجبها، وهي مضطرة لمراجعة جهات ادارية عدة عند صرف كل بند من بنودها المالية.  كما أن فاعلية الهيئة وتشجيع المواطنين على تقديم بلاغات وشكاوي تتعلق بممارسة الفساد تتطلب قيام الهيئة بتحديد مفهوم الشكوى الكيدية، فعدم تحديد هذا المفهوم ومعايير الشكوى الكيدية يدفع الكثيرين للإحجام عن تقديم ما لديهم من معلومات.

كما أن إقرار نظام حماية الشهود سيزيد قدرة الهيئة وطواقم التحقيق فيها من الوصول إلى الأدلة التي من شانها أن تدين من هم متورطين بالفساد، فلا يعقل أن نعتقد أن من يمارسون الفساد سيمارسونه علناً وفي وضح النهار، أو سيتركون خلفهم من الأدلة ما تسهل كشفهم وإدانتهم، لذا فإن توفير عنصر الحماية للشهود والمبلغين عن قضايا الفساد هو العنصر الحاسم في توفير المعلومة المتعلقة بفتح تحقيق في قضايا الفساد، ويجب أن نوضح للجمهور الفرق بين الشكوى والإبلاغ عن قضايا الفساد، فالإبلاغ قد لا يتعدى كونه تقديم معلومة للجهة المختصة وهي المخولة في تقدير إن كانت معلومات هذا البلاغ تكفي لفتح تحقيق أم لا، بينما الشكوى توجب فتح التحقيق لذا لا بد لمقدمها أن يكون لديه من الأدلة ما يكفي أن تكون شكواه غير كيدية.
اعتقد أن الهيئة ستفعل خيراً لو تركت الباب مفتوحاً أمام الجمهور ومن خلال الوسائل الإلكترونية الحديثة لتقديم أية معلومات لديه بشأن الفساد، وهذه المعلومات يجب أن تصب لدى جهة متخصصة بجمع المعلومات، تعمل على فلترتها وتقديم ما يعتقد أنه مفيد لجهة التحقيق  في الهيئة في حال قررت فتح تحقيق في ذلك.

**المقالات والآراء المنشورة تعبر عن رأي أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي أمان
go top