الصحافة الاستقصائية

"الصيد الممنوع" يفتك بالأسماك والرقابة تصرف النظر

"الصيد الممنوع" يفتك بالأسماك والرقابة تصرف النظر

تحقيق: محمد الهمص – محمود خويطر

شريط بحري يبلغ طوله 35 كيلومتراً ينتشر عليه آلاف الصيادين الغزيين الذين يستخدمون وسائل عديدة في سبيل طلب الرزق دون النظر لشرعية تلك الوسائل ومدى تأثيرها على الثروة السمكية.
"فريق العمل" وخلال خمسين يوماً من البحث عاينوا العديد من التجاوزات من قبل صيادين تمثلت في إستخدام مراكب "الجر"، والشبك الأحمر، والمتفجرات المعروفة "بالبوم" وهو ما له آثار كارثية على الثروة السمكية وإنقراض في بعض أنواع الأسماء وقلة في عدد أصناف أخرى.

التجاوزات لم تقف عند ذلك الحد بل تعدتها من خلال ممارسة مهنة الصيد داخل حوض الميناء المكان الذي تحظر عدة جهات منها سلطة البيئة ودائرة الثروة السمكية في وزارة الزراعة الصيد فيه نتيجة لنسبة التلوث التي بلغت بحسب تحليل أجراه فريق التحقيق لعينات من الحوض أضعاف النسب المسموح بها دولياً.
وفي ظل تلك الممارسات السابقة ومخاطرها عاين معدو التحقيق بالإضافة لشكوى عدة جهات ضعف في الرقابة من قبل الجهات الحكومية والدليل استمرار التجاوزات حتى كتابة سطور التحقيق.

وضع كارثي لحوض الميناء

معدو التحقيق بدأوا أولى خطوات التحري من حوض الميناء البالغ مساحته 250 ألف متر مربع الذي يحوي مياه راكدة منذ إنشائه في العام 1999 ويعد مرفأ لمراكب الصيادين ونقطة تجمع وانطلاق لهم.
ركود المياه بالإضافة للملوثات الناجمة عن وقود السفن، علاوة على الأخطر في الموضوع وهو وجود أكثر من مضخة لمياه الصرف الصحي غير المعالجة بحسب سعد الدين الأطبش مدير عام المياه والصرف الصحي في بلدية غزة، جعلت وضع مياه الحوض شديدة التلوث وغير صالحة للصيد والسباحة.
لم يكتفي فريق التحقيق بالمعلومات السابقة بل لجأوا لتحليل عينات من مياه الحوض والتي أظهرت تلوث شديد للمياه يصل لضعف المصرح به عالمياً بحسب مختبرات معهد المياه والبيئة بجامعة الأزهر.    

وفي نظرة على الأرقام الواردة في الجدول أعلاه فإن تحليل عنصري الـ  (COD)وهو عبارة عن Chemical Oxygen Demand، والذي يقيس التلوث العضوي من كل المواد القابلة للأكسدة بالدايكرومات والموجودة بالماء الملوث. و(BOD5)  Biological Oxygen Demand، الذي يقيس التلوث عن طريق معرفة كمية الأكسجين المستهلك للبكتيريا في المياه يظهران تلوث شديد في مياه الحوض.

وتوضح نتائج التحليل أن نسبة ((COD بلغت في الحوض كمتوسط للعينات التي جرى فحصها 16.88، فيما بلغت نسبة (BOD5) 9، وهو ما يدلل على تلوث شديد بحسب معهد الأزهر حيث تؤكد المعاير الدولية أن تلوثاً شديداً يصيب المياه في حال تجاوز الرقم 8 .
أما عن نسب البكتيريا (CFU) التي تعبر عن مجموعة من البكتريا تنتمي إلى عائلة البكتيريا المعوية وتعيش في المياه والتربة فهي مرتفعة جدًا حيث تصل إلى 300 في كل 100 ملم بحسب المركز وهو ما يعني التلوث الشديد.
ورغم أن الأسماك الموجودة داخل الحوض ملوثة بحسب الدراسات والجهات المعنية إلا أن مراقبة الحوض من قبل معدي التحقيق لمدة استمرت عشرة أيام بواقع ست ساعات يومياً _ تعتبر وقت الذروة للصيادين _ أظهرت وجود أكثر من 30 صيادا ما بين الممتهنين للصيد والهواة يقومون بالصيد يوميا داخل مياه الحوض دون أي منع من الجهات المعنية.

عطية البرش المختص في حماية البيئة ومسؤول المختبر البيئي في سلطة البيئة أكد على ضرورة منع الصيد والسباحة في مياه حوض الميناء، مشيرا إلى وجود لافتات كبيرة تحدد الأماكن الملوثة وتدعوا للامتناع عن الصيد او السباحة فيها لما تسببه من مخاطر على الصحة بسبب نسب التلوث، إلا أنه أقر بوجود تجاوزات من قبل الصيادين وإن كانت محدودة على حد تعبيره.

الصياد (ر.ب) _ والذي فضل عدم ذكر إسمه - إعتاد على الصيد في مياه الحوض، فريق التحقيق قابل الصياد أثناء إلقاء شباكه بجانب "لسان" الميناء وعند سؤاله في مقابلة مسجلة عن مصير الأسماك الملوثة بحسب اللافتات الموجودة بالمكان قال : "محدش سائل، بعدين أنا باكل من السمك"، في إشارة إلى إعتياده على ممارسة الصيد داخل مياه الحوض دون تعرضه للمنع.

صيد جائر

تجاوزات الصيادين لم تقف عند الصيد في حوض الميناء بل تعدتها لممارسات جائرة تضر بالثروة السمكية وتعرضها للإنقراض وهو ما تطلب من فريق البحث أيام إضافية من البحث والمراقبة حول القضية.
مع ساعات الصباح الأولى، أشعل أحد الصيادين فتيل المولد لتشغيل مركبته كبيرة الحجم المعروفة     بـ " لنش الجر" لتبدأ بالدوران، يساعده زملائه الآخرون بإلقاء شباك حمراء اللون، وتبدأ السفينة بالتحرك من منطقة وجودها داخل الحوض لتجر في طريقها كل أشكال الحياة البحرية.
تعددت الأساليب غير المشروعة المستخدمة من قبل الصياد السابق والتي تتلخص في سحبه للنش بطريقة الجر، واستخدامه للشباك الأحمر المحرم دولياً والذي يقدر قطر عيونه بـ (4ملم).
الطُرق السابقة تؤثر على الحياه البحرية، فجر اللنش يقضي على الكثير من بيض الأسماك، بالإضافة للأسماك صغيرة الحجم، فيما يتسبب الشباك الأحمر بكنس البيئة البحرية لضيق قطره بما فيها من بيض واسماك صغيرة ما يؤدي لدمار في البيئة السمكية وقلة في عدد الأسماء المتوفرة للصيد.

فريق التحقيق حمِل ملاحظاته والتجاوزات الحاصلة إلى جهاد صلاح مدير دائرة الخدمات السمكية في وزارة الزراعة والذي أرجع الضعف في الرقابة إلى الأوضاع الاقتصادية للصيادين، مشيرا إلى أنهم ينظرون بعين الإنسانية لحالة الصياد الفلسطيني الممنوع من التقدم للصيد بسبب الاحتلال لذلك يتغاضون عن عدد من التجاوزات.
حديث صلاح عن تغاضيهم عن التجاوزات تزامن مع تأكيده على تلوث مياه الحوض بسبب مضخات المياه العادمة غير المعالجة المنتشرة في المكان، محملاً المسؤولية لبلدية غزة.
وأقر صلاح بإستخدام أساليب أكثر خطورة من قبل _متنفذين_ على حد تعبيره أحدها الصيد عن طريق استخدام المتفجرات المعروفة "بالبوم".
وتتلخص طريقة الصيد بالمتفجرات بحسب صلاح على إحداث انفجار تحت المياه يتسبب بفقدان الوعي لدى الأسماك وخروجها إلى سطح المياه عندها يقوم الصياد بجمعها بكل سهولة، مخاطر كبيرة تسببها طريقة الصيد بالبوم وهي تدمير الصخور التي تعتبر بيوتاً وملجأ للأسماك المحلية والتي تتكاثر فيها لتكوين النواة الأولى لخلية سمكية جديدة.
أما أمجد الشرافي أمين سر نقابة الصيادين في غزة فأكد وجود عدد كبير من الصيادين يستخدمون الأساليب غير المشروعة، حاولت النقابة التصدي لهم بالتعاون مع عدد من الصيادين المتضررين عن طريق تقديم الشكاوي للجهات المعنية منها وزارة الزراعة والشرطة البحرية لكنها لم تلقى أي استجابة واضحة على حد قول الشرافي.

آثار مدمرة

حاولنا النظر لحجم الإنتاج السمكي ومدى تأثير الأساليب السابقة على الكميات خلال السنوات الأخيرة إلا أننا لمسنا تضارباً في الأرقام في السنوات الأخيرة ما بين الجهات المختصة ففي حين توافقت إحصائيات مركز الإحصاء الفلسطيني مع دائرة الثروة السمكية والتي تحدثت أن الأعداد في تذبذب طبيعي بفعل الإحتلال وعدد من العوامل الطبيعية حيث يوضح الرسم البياني الآتي هذا.

نقابة الصيادين اعتبرت أرقامها هي الأكثر صحة بحكم قربها من الصيادين كما قال الشرافي كانت النتائج مغايرة وتأخذ شكل الإنحدار المتواصل، حيث بلغت كمية الناتج السمكي في عام 2014 (1600) طن، أما 2015 (1500) طن وأن توقعاتهم للعام 2016 قد تبلغ (1400) أو أقل من ذلك.

المستقبل والتوقعات

الدكتور حاتم الشنطي رئيس قسم الإنتاج الحيواني والدواجن في كلية الزراعة بجامعة الأزهر، تحدث عن أن طبيعة الثروة السمكية في شح بسبب ممارسات الاحتلال، إلا أن للممارسات الجائرة في ظل ضعف رقابة الجهات المعنية تؤثر سلباً على مستقبل الثروة السمكية، كميات الأسماك الصغيرة التي يقوم الصيادون باصطيادها بالطرق الممنوعة من الممكن أن تؤثر إيجاباً على مستقبل الثروة السمكية في حال تركت تنمو بشكل مناسب.
الخبير الإقتصادي محمد عثمان أكد أن مستقبل الثروة السمكية إذا إستمر على هذا الحال فإن السوق سيواجه عجز في العرض من الأسماك وزيادة طبيعية في الطلب، ستتولد فجوة بين العرض والطلب والتالي يوثر على حجم الناتج المحلي والناتج القومي الإجمالي.

وبتعدد طرق الصيد غير المشروعة سالفة الذكر، يظهر جلياً ضعف رقابة الثروة السمكية وهو الجهاز الرقابي الرسمي المسؤول عن تنظيم عملية الصيد الذي برر ذلك بالظروف الإنسانية والإقتصادية للصيادين بسبب مضايقات الإحتلال المستمرة التي تؤثر على كل مناحي الحياة في قطاع غزة، إلا أن التأثيرات الكارثية والتي تضرب حق الأجيال القادمة في الثروة السمكية في مقتل تتطلب من المعنيين تفعيل العمل بالأنظمة والقوانين حرصاً على الثروة السمكية من الانقراض والتلوث.

go top