الصحافة الاستقصائية

مبيدات مسرطنة لم تحظر فلسطينيا.. المبيدات الزراعية في الأغوار بلا حسيب أو رقيب

مبيدات مسرطنة لم تحظر فلسطينيا.. المبيدات الزراعية في الأغوار بلا حسيب أو رقيب

تحقيق: فراس الطويل

في منطقة الفارسية بالأغوار الشمالية، يزرع علام دراغمة "50 عاما" قرابة 120 دونماً بأصناف متنوعة من الخضار على مدار العام، وهو يعمل في هذه المهنة منذ ما يزيد على 30 عاماً، توارثها عن والده وأجداده وأصبحت مصدر دخله الرئيس.
"منذ ثلاثة أعوام لم يصلنا أحدٌ من وزارة الزراعة، لم أشاهد أي مهندس أو مرشد زراعي هنا، فنحن نعتمد على أنفسنا وخبراتنا السابقة في الزراعة". يقول دراغمة منتقداً تقصير الجهات الحكومية المختصة في تقديم الارشادات للمزراعين في مناطق الأغوار الشمالية. حيث يعتمد المزارعون على خبراتهم التي راكموها على مرّ السنين، دون وجود أية معايير أو ضوابط فيما يتعلق باستخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية.

يتابع دراغمة من وسط مزرعته ومن حوله صوت لصياح ديك : "أنفق سنوياً قرابة 150 ألف شيكل على  شراء المبيدات والأسمدة، في هذه المناطق نستخدم المبيدات بشكل عشوائي، وتحدث هناك أخطاء في الاستخدام تكلفنا خسائر باهظة، أحيانا نستخدمها بشكل مفرط، وأحياناً أخرى بنسب أقل من المطلوب، وفي النهاية تحدث تشوهات في الثمار، ولم نحصل على الانتاج الوفير، يحصل هذا لأننا لا نعرف بالضبط الطرق الصحيحة لاستخدام المبيدات".

تهريب من المستوطنات واستخدام دون ضوابط

قلة الوعي لدى المزراعين لا تعكس نفسها فقط على نوعية وكمية الانتاج الزراعي، بل تتعداه الى ممارسات قد تكون فتاكة على الصحة والبيئة. في مناطق الأغوار تحديدا يعتمد المزراعون على المبيدات في الانتاج الزراعي بشكل كبير، ونظرا لغلاء أسعارها في الأسواق الفلسطينية يلجؤون الى شرائها من المستوطنات الزراعية المقامة على أراضي الأغوار بأسعار رخيصة، نظرا لأن الحكومة الاسرائيلية تقدم اعفاءات ضريبية للمستوطنين  لتشجيعهم على الاستثمار في المستوطنات المقامة في الأغوار تحديدا.

يؤكد عارف دراغمة رئيس مجلس المالح والمضارب الرعوية، ويعمل مزراعا منذ سنوات ويرأس جمعية زراعية، أن تهريب المبيدات من المستوطنات منتشرٌ على نطاق واسع في الأغوار، في ظل غياب وانعدام الرقابة على التهريب والاستخدام لهذه المبيدات. ويقول: "لا يقتصر الأمر على التهريب، وانما يقدم عمال في المستوطنات على سرقة مبيدات من الاراضي الزراعية أثناء عملهم، وتهريبها للمزراعين الفلسطينيين، الذين يستخدمونها دون أي ضوابط. الأمور عشوائية جدا، لا يعرف المزراع الكميات التي يجب ان يستعملها، ولا الأوقات المحددة للرش، ولا حتى المواعيد الدقيقة للقطاف، العشوائية هنا سيدة الموقف، وكل مزارع يستخدم المبيدات حسب هواه".

وتصل المساحة المزروعة في منطقة الأغوار الى 40 ألف دونماً، تعتبر سلة غذاء فلسطين، تشمل قرابة 5 آلاف بيت بلاستيكي، اضافة لـ 5 آلاف دونم مزروعة بأشجار النخيل، فيما تقدر أعداد الماشية في هذه المنطقة بـ 50 ألف رأس غنم.

300 مرشد زراعي في وزارة الزراعة

تنفي وزارة الزراعة اتهامات مزراعين في الأغوار بعدم تلقيهم أي نوع من الارشاد والنصح في طريقة عملهم، خصوصاً فيما يتعلق باستخدام المبيدات. وتؤكد المهندسة الزراعية ضحى عابدة مديرة دائرة الإعلام الزراعي في الوزراة على وجود 300 مرشد زراعي يعملون في مديريات الضفة كافة، ويقومون بتقديم الارشادات اللازمة.
وأضافت: "بشكل مستمر تعقد الوزارة ورشات عمل للمزارعين ومحاضرات وندوات للتوعية بآليات استخدام المبيدات، وطرق خلطها ورشها، ومواعيد قطاف الثمار وضرورة الالتزام بفترات الأمان، ناهيك عن الرسائل القصيرة التي تصل هواتف المزراعين وتشمل ارشادات لهم خصوصاً في فترات الصقيع والظروف الجوية الاستثنائية".

وزارة الصحة: لا يوجد لدينا نظام لفحص متبقيات المبيدات

تعتمد وزارة الصحة على الدراسات والأبحاث في فحص متبقيات المبيدات في الخضار والفواكه دون وجود نظام واضح وروتيني لإجراء الفحوصات بشكل اعتيادي، ووفقا لتأكيد رئيس قسم مكافحة الحشرات والقوارض في وزارة الصحة سامر صوالحة فإن آخر دراسة أجريت بهذا الخصوص عام 2011 وكانت نسب المتبقيات من المبيدات في الخضار والفواكه مقبولة ضمن الحدود المسموح بها، وذلك بعد فحص 100 عينة من شمال الضفة الغربية وجنوبها.

في المقابل أفاد صوالحة أن وزارتي الزراعة والصحة بدأتا بعقد اجتماعات مستمرة في الشهور الاخيرة في إطار اللجنة الوطنية العلمية المتعلقة بالمبيدات، لاتخاذ الاجراءات اللازمة لفحص متبقيات المبيدات في الخضار والفواكه في الاسواق المحلية، وأضاف: " يجري العمل على تطوير الفحوصات في مختبر الصحة العامة ويتم اضافة أنواع جديدة من المبيدات لفحص متبقياتها من أجل حماية السكان من أية أضرار".

وتابع صوالحة بالقول: "المبيدات ضرورية جدا، ودون استخدامها ستكون حياة الإنسان معرضة للخطر وعرضة للموت بسبب الأمراض خصوصا الملاريا، فمع استخدام المبيدات يموت شخص كل أربعين ثانية في العالم، فما بالكم دون استخدامها، خصوصا في ظل المتغيرات المناخية، بالتالي استخدام المبيدات شرٌ لا بد منه".

"مبيدات مسرطنة" لم تحظر فلسطينيا

حذر الخبير البيئي جورج كرزم بعد الإعلان الأخير الذي أصدرته الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) التابعة لمنظمة الصحة العالمية، عام 2015، من أن مادة "الغلايفوسات" الفعالة في بعض مبيدات الأعشاب والتي ما زالت تستخدم في إسرائيل والأراضي الفلسطينية قد تسبب الأورام السرطانية لدى البشر".

وأشار كرزم إلى أن الوكالة الأوروبية للحماية البيئية أيضاً أجرت العام الماضي مراجعة للآثار الصحية والبيئية لمادة "غلايفوسات" التي تعتبر المكون الرئيسي في العديد من مبيدات الأعشاب وأبرزها مبيد "راوند أب" الذي تنتجه شركة "مونسانتو"، ويعد أكثر مبيدات الأعشاب انتشارا في العالم.  إلا أن هذه المادة الفعالة تدخل في نحو 700 منتج آخر يباع في الأسواق العالمية. وتقدر عائدات شركة "مونسانتو" من المبيدات والمواد الكيميائية المحتوية على "غلايفوسات" بنحو خمسة مليارات دولار خلال عام 2014.

ونوه كرزم في ذات الصدد إلى طلب وزارة الصحة الإسرائيلية من وزارة الزراعة فرض قيود صارمة على استعمال المبيدات المحتوية على هذه المادة والمستخدمة ليس فقط في الأراضي الزراعية، بل أيضا في المدن، بما في ذلك الحدائق العامة، الروضات والمدارس.

وعلى مستوى الضفة الغربية وقطاع غزة، لفت كرزم، إلى استخدم عدد كبير من المزارعين مبيدات عشبية تحوي مادة "الغلايفوسات" المسرطنة.  مبيد "راوند أب" يعتبر في طليعة مبيدات الأعشاب الأكثر شيوعا في الضفة والقطاع.  كما أن ذات المبيد يباع في الأسواق بأسماء تجارية مختلفة.  واللافت أن القائمة المعمول بها حاليا لمبيدات الآفات الزراعية المسموح تداولها في مناطق السلطة الفلسطينية والصادرة عن وزارة الزراعة الفلسطينية، هي قائمة عام 2013-2014.  ومن بين عدد كبير من المبيدات العشبية الخطرة تضمنت القائمة 8 مبيدات عشبية، بأسماء تجارية مختلفة، تحوي المادة الفعالة "الغلايفوسات" وبذات التركيز الموصى به.
وفي هذا الجانب أشار م. أمجد صلاح مدير عام وقاية النبات والحجر الصحي في وزارة الزراعة الى أن إعلان الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) باحتمالية تسبب مادة الغلايفوسات  للأورام السرطانية لدى البشر، كان كافيا لبحث الموضوع من خلال اللجنة العلمية الفلسطينية (الخاصة بالمبيدات) واتخاذ قرار بضرورة انتظار المزيد من نتائج الأبحاث المؤكدة لنتائج التقرير وخاصة من الهيئات ذات العلاقة مثل منظمة الصحة العالمية والوكالة الأميركية لحماية البيئة الخاص بهذا الموضوع تحديدا؛ وبعدئذ سيتم اتخاذ القرار الذي سيتمثل بمنع المبيدات التي تحوي هذه المادة وليس كما القرار الإسرائيلي، مجرد فرض قيود على  الاستخدامات.

وعلل صلاح ذلك في تصريحات سابقة بأن "مسألة القيود لدينا تفتقر إلى الضوابط التي تضمن الالتزام بالقيود؛ وبالتالي فرض القيود في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية مسألة صعبة جدا.  فعندما تكون لدينا مادة بهذه الخطورة، من الأسهل علينا منعها منعا كاملا، سواء استيرادها أو إدخالها من إسرائيل؛ بمعنى أن هذا الحل أكثر سهولة وسرعة للتنفيذ والسيطرة".

وفيما يتعلق بوجود ما لا يقل عن 8 مبيدات أعشاب كيميائية تجارية تحوي مادة glyphosate، والمسموح تداولها فلسطينيا (بحسب قائمة وزارة الزراعة للمبيدات المسموح تداولها) أفاد صلاح:  "بالنسبة لنا، المبيدات بشكل عام يوجد لها دائما بدائل لأنها موجودة بكثرة.  فليس بالضرورة أن ذهاب الغلايفوسات معناه أننا في فلسطين سنواجه مشكلة كبيرة في عدم وجود البديل؛ فالبدائل موجودة دائما.  لكننا نأخذ في الاعتبار أن الدراسة أو التقرير الذي نعتمده يكون صادرا عن جهة ذات مصداقية علمية عالمية، كي يكون قرارنا مبرراً من الناحية العلمية وكاف لرد أية اعتراضات من الشركة المصنعة أو دعاوى في المحاكم".

سلطة البيئة: نحتاج اثباتات قاطعة قبل حظر أي مبيد

من ناحيتها، تؤكد سلطة جودة البيئة على لسان المكلف بالادارة العامة لحماية البيئة ياسر أبو شنب، على أن المبيدات بشكل عام خطرة على الانسان وبيئته، مضيفاً: " بشكل عام المبيدات الزراعية، مواد كيماوية خطرة على الانسان والبيئة، وبناء على ذلك نحن نبحث عن افضل الوسائل البديلة التي يمكن استخدامها، ونحن نشجع اي بدائل. أما اذا كانت هناك وسائل دون بدائل فنحن نتعامل معها إلا اذا اثبت الدراسات أنها مضرة. ولدى مناقشة المبيدات الزراعية يتم النظر اليها من زواية الصحة العامة والبيئة ونقوم بمراجعة المبيدات من عدة جوانب والدراسات الصادرة حولها من قبل المنظمات الدولية، وبالتالي تتم عملية مناقشة وتقييم لكل مبيد ومعرفة ايجابياته وسلبياته في الاستخدامات، واذا تبين عدم وجود اثبات قاطع لأضرار أي مبيد فنقوم بدعمه واذا تبين وجود أضرار فيجب استخدامه وفق تعليمات خاصة يجب الالتزام بها، وربما نقوم بحظره بعد إجراء الدراسات اللازمة".

خبراء: لا بد من حظر كلي للمبيدات

في ظل الجدل حول فرض قيود على استخدام أنواع معينة من المبيدات أو حظر أنواع أخرى، يدور جدل مغاير تماماً حول ضرورة منع استخدام المبيدات بشكل كلي.
وفي هذا الجانب، أشارت عبير الخليلي وهي عضو مجلس ادارة في جمعية المهندسين الزراعيين العرب الى وجود توجه لدى الجمعية في الوقت الراهن بالعمل مع المهندسين الزراعين في الضفة والقطاع عن طريق تقديم الارشادات لهم بعدم استخدام المبيدات واستبدالها بالأساليب العضوية الطبيعية، والرجوع الى نظام زراعة أجدادنا دون استخدام المبيدات، مشيرة إلى "هناك نماذج عدة تم تنفيذها في الوطن من خلال الزراعة البيئية والعضوية وكانت ناجحة حيث يتم انتاج محاصيل صحية خالية من الكيماويات ويجب الالتفات الى كل هذه التجارب وإعادة النظر في استخدام المبيدات".

وطالبت الخليلي بوقف استخدام المبيدات نهائيا لأن ذلك لن يؤدي الى قتل الانسان والبئية، وردت من خلال حديثها على ان الجهات المختصة بحاجة لأدلة قاطعة حتى تحظر هذا المبيد أو ذاك، قائلة: "سبق وان أكدت منظمات دولية أن بعض أنواع المبيدات التي كانت مسموحة في السابق بأنها مسببة للأمراض السرطانية بعد سنوات من استخدامها، فهل ننتظر أن تفتك بنا المبيدات حتى يتم منعها؟".

واتفق الخبير البيئي المهندس الزراعي سعد داغر مع هذا الطرح، وطالب بضرورة حظر كلي لاستخدام المبيدات، واعتبر أن الزراعة البيئية العضوية تشكل بديلاً فعالاً للزراعة الكيماوية من خلال تجارب محلية واخرى عالمية.
وتابع داغر: "يعتبر السرطان ثاني مسبب للوفاة في فلسطين، وهذا مرده بالدرجة الاولى للغذاء الذي يتناوله الانسان، هناك علاقة مباشرة بين استخدام المبيدات وتزايد حالات الوفاة بالسرطان، اذا اضطررنا لاستخدام مبيدات ضد حشرات معينة فليكن، لكن لماذا نستخدم كل هذه الأطنان من المبيدات في الزراعة تحت مبرر الأمراض والملاريا، لذلك المبيدات شر لا بد من القضاء عليه".

go top