آراء حرة

متعثرون على سلّم الشفافية

متعثرون على سلّم الشفافية

تُثير الأحكام الإسرائيلية الصادرة في قضايا الفساد، التي طالت الشخصيات السياسية العامة، ردود أفعال متباينة، إذ يرى كثيرون أن محاكمة رئيس الدولة ورئيس الوزراء السابقين، بتهم الإخلال بالأمانة، وإدانتهما وإصدار أحكام بالسجن عليهما، يُعد دليل قوة لدى المنظومتين القضائية والسياسية. ولعل الأمر لن يكون إلا كذلك، حين تنفصل واقعتا موشي كتساف وإيهود أولمرت، عن المشهد الإسرائيلي العام وما يتفشى فيه من فساد، طال الجيش والجهاز القضائي وقطاع الأعمال.

إن نظرة سريعة، على سُلم قياس درجات الفساد الذي يعده خبراء اقتصاديون دوليون، ويتناول الأوضاع في 177 بلداً، وهو سُلم من مئة درجة، أعلاها شفافية هي الدول الأقرب الى المئة، وأدناها هي الأقرب الى الصفر؛ تدلنا على أن معدل درجات أنظمة الحكم في الشرق الاوسط، هو الـ 37. واحتلت اسرائيل درجة الـ 36 على صعيد الدول قاطبةً، لكنها بالنسبة للسلم الخاص بالدول الأعضاء في منظمة الشفافية الدولية (وعددها 34 دولة) همدت إسرائيل عند رقم 23 في محاولة يائسة للصعود على سُلم الشفافية.

سيكون السبب الوحيد الذي يبرر القول إن إسرائيل من أكثر الكيانات فساداً في المنطقة؛ هو أن الدراسات المسحية أشارت الى فساد فادح في الجيش، وفي الأحزاب السياسية، وفي المؤسسات الدينية، وفي جهاز الخدمة المدنية. أما الجانب الذي يضفي منطقية على التحليل الذي يرى أن هناك في إسرائيل قانوناً يطال الجميع وتنحني له كل الهامات، وأن الفاسد يُعاقب؛ فهو كون الحال العربي مزرياً حسب قراءات السُلم، دون أن ترى الشعوب رئيساً أو رئيس وزراء يُحاكم بمفاعيل نظام الحكم نفسه وليس بمفاعيل انفجار المجتمع والانقلاب عليه. ومن المفارقات، أن وضع الأقطار العربية التي حوكم فيها مسؤولون، كان أفضل كثيراً، على السُلم، من تلك التي يهنأ فيها المسؤولون. فمصر مثلاً، راوحت خلال السنوات العشر الماضية، حول مركز 32 أعلى أو أدنى قليلاً، لكن جارتها السودان، مكثت في مركز الـ 14 ولم تفلح في بلوغ ما بلغته جارتها الأخرى إثيوبيا التي حصلت على المركز 33. واستمتع العراق، منذ إطاحة صدام حسين، بمركز الـ 16 أي اقتربت من الصفر ومن الفشل الكلوي، لكنها باتت أفضل حالاً من الصومال (المركز 8). ونزلت سوريا عن السنة الماضية من 26 الى 17. وسجل الأردن، الذي تعلو فيه أصوات الشاكين من فساد، مركزاً أفضل من سواه (45) ولم يتحسن وضع لبنان عن المركز 28. وليس هناك ــ بالطبع ــ كياناً عربياً، من نظيفي العالم الخمسة عشر على هذا الصعيد. فتلك كيانات لا تبيع ولا تشتري كلام النزاهة والحكم الراشد، لكنها تفعل وتطبق وتغرس في النشء ثقافة النزاهة وترى في الفساد خيانة، ويُعتبر مسؤولوها من المتواضعين الزاهدين. أي إن الدول الأكثر تنقية لهوائها من رميم الفساد، لا تداري عوراتها بمطولات نظرية عن حُسن الأمانة والعلاقة مع رب العالمين (الدانمارك، نيوزيلاندا، فنلندا، السويد، النرويج، سنغافورة، سويسرا، هولندا، استراليا، كندا، لكسمبورج، ألمانيا، أيسلاندا، المملكة المتحدة، وجزيرة باربادوس في غربي المحيط الأطلسي، بلجيكا وهونغ كونغ. والدول الثلاث الأخيرة 15 مكرر).

حال السلطة الفلسطينية، وفق المؤشرات نفسها، يراوح في المعدلات الدُنيا. والتقرير الأخير لـ «ميديل أيست مونيتور» يقول ـ للأسف ـ إن الفساد فيها مرض مستوطن Endemic ويستعرض التقرير القطاعات التي يطالها، واحداً واحداً، حكومية وغير حكومية.

لذا، إن كان لنا أن نسلط الضوء على فساد المحتلين، ينبغي في الوقت نفسه أن ننظر في المرآة، وأن نتوجه بفاعلية لتحسين وضع الشفافية عندنا نحن كخاضعين للاحتلال. المحتلون، في النهاية، لديهم صناعة واقتصاد قوي، ولديهم محاولات إنصاف أنفسهم وملاحقة من يتعدون على المال العام أو يستغلون نفوذهم ويُضبطون. هم أصلاً فاقدون لقيم العدالة، ونحن نزعم لأنفسنا استحواذاً على كل جميل وبديع من القيم. هم لا يتحدثون عن شقاء وعن عوز وعن شبكات أمان، ونحن من جماعة لله يا محسنين، والباقي عندكم.

 

* عن صحيفة الحياة الجديدة

**المقالات والآراء المنشورة تعبر عن رأي أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي أمان
go top